الأنبا بطرس دانيال: حملت السلاح عن زملائي المسلمين بفترة التجنيد وقرأت القرآن كاملا
- رفضت الخدمة في عدة دول وفضلت أن أكون خادما للوطن
- نظيم شعراوى أكثر الفنانين الذين أثرت زيارتهم في نفسي
- طلبت من الفنان أشرف زكى تقديم المساعدة المادية للفنانين المرضى غير القادرين على العلاج
- سيدة مسلمة وبكت حينما علمت بوفاة والدتى
- أقرأ لنجيب محفوظ وكنت عاشقا لمواقف أنيس منصور وعمود صلاح منتصر
- أحب قراءة الكتب باللغة الإيطالية والأدب والمعلومات العامة
اتخذت قرار الرهبنة في الحادية عشرة من عمرى
المتعصب شخص يجهل دين غيره.. والمتطرف يجهل دينه ولا يعرف شيئا عن المحبة
راهب في محراب الفن، يحظى بشهرة واسعة، يحبه المسلمون والمسيحيون على حد سواء، فهو خير مثال في المحبة، وقدوة في التسامح، ورمز من رموز العطاء، إنه الأب بطرس دانيال، رئيس المركز الكاثوليكي للسينما، الراهب الفرنسيسكانى عاشق الفنون، الذي يحكى في حواره لـ"فيـتو" عن طفولته ونشأته وأبرز محطات حياته.
بداية.. حدثنا عن طفولتك ونشأتك؟
أنا من مواليد الإسكندرية عام 1967، وبالتحديد بمنطقة محرم بك، لدى سبعة أشقاء، عشنا سويًا في كنف أسرة شديدة التدين حريصة على الذهاب إلى الكنيسة، كانت علاقة والدي ووالدتى بالآخرين شديدة الرقى، والجيران جميعًا يشهدون بأخلاقهما وسلوكياتهما، وكل الصفات أو المبادئ التي أملكها حاليًا يرجع إلى والدى ووالدتى الفضل في اكتسابها بعد "ربنا".
وما أبرز المبادئ التي غرسها الوالدان بداخلك؟
لقد غرسا في أنا وأشقائى حب الآخرين واحترامهم، والجدية في العمل، والإتيكيت والتسامح، وكذلك الالتزام والمسئولية، وهذا بطبيعة الحال أثر كثيرًا في شخصيتي، حتى إنني حرصت منذ صغرى أن أعمل، فقد بدأت العمل وأنا في مرحلة الإعدادية حرصًا منى على عدم تضييع الوقت واستغلال كل لحظة من عمري، كما تعلمت من والدتى العطاء، ولقد رأيت صدى عطائها بعد وفاتها، حينما جاءت إلينا سيدة مسلمة وبكت حينما علمت بوفاة والدتى، وكان السبب أن الوالدة في الفترة الأخيرة من حياتها، وفى ظل مرضها، كانت تحيك بنفسها ملابس وتمنح عائدها إلى هذه السيدة، وهكذا نشأت وتربيت على عدم وجود فرق بين المسلم والمسيحي، حتى إن أحد أقرب أصدقائى في فترة من فترات الدراسة كان مسلمًا وهو عصام السقا، (رحمه الله) لاعب مصر الأول في لعبة الكاراتيه، الذي كان دومًا يقول لى "أي حد يجي ناحيتك سواء مسلم أو مسيحي قولى"، وكنا نحب بعضنا البعض إلى درجة أنه حينما كانت تُضم الفصول على بعضها البعض، كان عصام يظل واقفًا طوال الحصة لكى أجلس أنا.
هل هذا التسامح والتعايش بين أسرتك وجيرانهم من المسلمين نتج عن الطبيعة الخاصة التي تميزت بها الإسكندرية كمدينة كوزموبوليتانية؟
لم يكن هذا فقط في الإسكندرية ولكن في مصر كافة، ولكن بالطبع الإسكندرية مدينة ذات طابع خاص، ولقد رأيت هذا التعايش في منزل أسرتى في محرم بك، فقد كان الحاج صاحب المنزل الذي كنا نعيش فيه مسلمًا، ولكن كانت صورة "العدرا مريم" تزين جدران منزله، وكان يقول إنه "بيتبارك" بها، وكان كل هذا يحدث بتلقائية وبحب حقيقي.
متى اتخذت قرار الرهبنة؟
اتخذت هذا القرار وأنا صغير في السن، فلم يكن عمرى قد تخطى الحادية عشرة عامًا، ولقد كانت هذه سن غريبة، لأنه حاليًا يتم السماح باتخاذ هذا القرار بعد الدراسة، حتى يكون الشخص قد اختبر الحياة العادية، ومر بفترة المراهقة، وقد وصل إلى مرحلة النضج في التعامل مع الجنس الآخر، ولقد قوبل قرارى هذا بالرفض في البداية من قبل والدى، ولكنه وافق حينما وجد منى إصرارًا وتمسكًا بقرارى.
وما السبب الذي دفعك لاتخاذ مثل هذا القرار في هذا العمر الصغير؟
كانت بداية هذا الطريق بالنسبة لى "كوميدية" ولكنها عميقة في الوقت ذاته، فقد كنت أدرس في مدرسة الرهبان الفرنسيسكان، وكان أبى حريصًا على تعليمي الصلاة في الكنيسة، بدلًا من أن يمنحني فرصة للعب مع زملائى، وكنت حينها صغيرًا، وأشعر بالضيق من هذا الأمر، لأن كل تفكيري كان يدور حول اللعب ككل مع من هم في مثل هذا العمر، وكان يرانى راهب كرواتى كانت تجمع بينه وبيني لغة الابتسامة والعطاء، لأنه كان يتكلم الإيطالية، وأنا أتحدث العربية، وكان حريصًا حينما يرانى أن يُخرج من "أكمام" ثوبه فواكه وحلويات ويمنحها لي، لذا فقد أحببته، وقررت أن أدخل عالم الرهبنة وأنا في هذه السن الصغيرة لكى أقوم بمثل ما يفعل هذا الراهب الكرواتى مع الأطفال الصغار.
هل أكملت دراستك الجامعية؟
التحقت بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ولكن نُصحت إذا اتخذت قرارًا باستكمال طريقي في الرهبنة، فمن الأفضل أن أسحب أوراقى من الجامعة، لأننى في كل الأحوال سوف أدرس في الدير الفلسفة واللاهوت، ولن أحتاج إلى الجامعة، وبالرغم من رفض والدى واستيائه من انسحابى من الدراسة الجامعية، إلا أنه كان مؤمنًا ومستسلمًا لإرادة ربنا، وكذلك كنت أنا، وكان في الأخير كل شىء في صالحى، وانتقلت حياتى إلى الجيزة للدراسة في الدير، وقد ارتديت "التوب" في إيطاليا، وبعدما قضيت فترة تجنيدى أصبحت قسيسًا.
وكيف قضيت فترة تجنيدك بالقوات المسلحة وما مدى تأثيرها على شخصيتك؟
التحقت بسلاح المشاة، وقضيت فترة تجنيدي في مدينة السلوم، وهناك عشت حياة مختلفة تمامًا، وتغيرت كثير من أفكارى، وكنت أتعامل مع المسلمين بالفطرة والحب، فكنت في شهر رمضان، حينما يحين موعد الإفطار أحمل السلاح عن زملائى المسلمين لكى يتمكنوا من تناول إفطارهم، وبعد 15 يوما، سألنى قائد الكتيبة عن سبب ما أقوم به، قلت له إننى راهب، ورسالتى هي الصلاة والخدمة، وفعلت ما فعلته لكى يتمكن الزملاء من الإفطار مع أصدقائهم، بدلًا من تناولهم الإفطار وهم ممسكون بالسلاح، وكان الاحترام هو الذي جمعنى فيما بعد بهذا القائد، وأذكر يومًا أيضًا أننى في شهر رمضان أيضًا حرصت على تنظيف الأوانى التي يُطهى بداخلها الطعام لزملائى بأدواتى الشخصية، وحينها جاء لى عسكري وسألنى عن اسمى، وحينما قلت له "بطرس"، قال لى بعفوية وصدق، "أول مرة أحب واحد مسيحي".
كيف لعبت الصدفة دورًا مهما في حياتك؟
معظم فترات حياتي كانت تحمل الكثير من الصدف، ومعظم هذه الصدف لم أكن راضيا عنها في البداية، وإذا ما خُيرت للقيام بها فلن أختارها، ولكننى في كل مرة كنت أقول "ربنا فلتكن إرادتك"، ولقد قبلت كل ما اختاره ربنا لى، وتغيرت حياتي بالفعل مع هذه الاختيارات، فعلى سبيل المثال وقوعى في حب الموسيقي كان صدفة بحتة، فقد كنت يومًا أقف في مقدمة طابور المدرسة، ونظرًا لمرض الطالب المنوط به حمل آلة "الإكسليفون" نادانى العازف لأحمل الآلة بدلًا من الزميل الغائب، ورغم أننى كنت مستاءً في البداية إلا أننى أحببت الآلة وحفظت اللحن الذي يعزفه العازف، وأحببت تكرار تجربة حمل الآلة، وفيما بعد أصبحت عازفًا عليها، ومن يومها وأنا أحب الموسيقي وتعلمتها تدريجيًا، وكنت في كل مكان أذهب إليه أعزفها، وكان من المفترض بعدما أصبحت قسيسًا عام 1995، أن أعد الدكتوراه في الموسيقي، ولكن قبل سفري بشهرين تفاجأت بأننى سأدرس الإعلام بدلًا من الموسيقي، فشعرت بضيق شديد، ولكنى استسلمت لإرادة ربنا، وحصلت بالفعل على ماجستير في الإعلام من إيطاليا، ولكن بعد عودتى استلمت المركز الكاثوليكي للسينما، فربطت في المركز بين السينما والإعلام والموسيقي، لأقدم من خلاله الرسالة التي أؤمن بها.
ما تأثير المركز الكاثوليكي على حياتك وكيف أثرت أنت فيه؟
تم اختيارى لأسير في هذا الطريق وكانت مسئولية كبيرة، كنت في البداية أساعد الأب يوسف مظلوم، (رحمه الله) ومنذ عام 2007، بدأت في وضع لمساتي في المركز، فبدأنا بتجديد قاعة المركز، والاحتفاء بنجوم الفن من خلال احتفاليات "مشوار نجم"، فضلًا عن المهرجان الذي نحرص من خلاله على اختيار أفلام وفقًا لمعايير خاصة ذات طابع أخلاقى، واختيار فنان منسي أو مريض لتكريمه، بالإضافة إلى زيارة الفنانين المرضى، التي كان لها كبير الأثر في نفوس النجوم.
من أبرز النجوم الذين حرصت على زيارتهم؟
هناك الكثير من الفنانين الذين حرصت على الذهاب إليهم بنفسي، مثل زهرة العلا، وفؤاد المهندس، وشويكار، وفؤاد خليل، الذي كان سعيدًا للغاية بهذه الزيارة، وفاروق نجيب، ومحمد شرف، ومحمد أبو الحسن، وسيد زيان، ومديحة يسري، ونادية لطفى، وغيرهم كثير من الفنانين، وكنت اهتم بالبحث عن الفنانين الذين يمكن زيارتهم، وأحيانًا يخبرنى عنهم أحد، أو من الممكن أن يتصل أحد الفنانين المرضى بى، مثلما فعلت ميرنا المهندس، رحمها الله، حينما طلبت منى زيارتها، وهذه الزيارات والاهتمام بالفنانين الذين توارت عنهم الأضواء "بتفرق معاهم جدًا"، فهم كانوا يومًا في قمة المجد، وفجأة تغيب عنهم الأضواء فتتأثر حياتهم كثيرًا.
ومن هم أكثر الفنانين الذين أثرت زيارتهم في نفسك؟
الفنان نظيم شعراوى، فقد كانت حالته الصحية صعبة، وكذلك الفنان محمد أبو الحسن، لأنه كان في حالة فرح عارمة، حينما زرناه وقدمت له آية قرآنية، وعند تكريمه في المركز على المسرح بكى وألقي الزهور على الحاضرين، وقال لهم "انتم رجعتولى الحياة"، ومازلت أرغب في القيام بجولة كبيرة للكثير من الفنانين الذين لم أزرهم بعد، كما أننى تواصلت مع الفنان أشرف زكى، وطلبت منه تقديم المساعدة المادية للفنانين المرضى غير القادرين على العلاج.
ماذا يقرأ الأب بطرس دانيال؟
أقرأ لنجيب محفوظ، وحاليًا أحب قراءة الكتب باللغة الإيطالية، وبصفة عامة، أفضل قراءة الأدب والمعلومات العامة، وكنت عاشقا لقراءة مواقف أنيس منصور، وعمود صلاح منتصر، وأحب أيضًا قراءة الصحف.
وهل هناك قراءات إسلامية؟
أنا أحتفظ بالقرآن الكريم بأكثر من لغة، بالعربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية، وقد قرأته كاملًا، وأقرأ المواعظ الإسلامية المنشورة بالصحف، فضلًا عن أنني درست في اللاهوت الأديان المقارنة، وبصفة عامة، من يريد التقرب لأحد لابد من القراءة عنه، فالمتعصب يجهل دين غيره، والمتطرف يجهل دينه.
هل هناك أزمات مر بها الأب بطرس دانيال في حياته وأثرت فيه؟
ليست أزمات بقدر ما أصفها بأنها "حروب"، فأى ناجح في أي مجال هناك من يحاول أن يهدم نجاحه، فالكثيرون لا يحبون لغيرهم الخير، لذا فأفضل شىء أن يكمل الإنسان تقديم رسالته، وهذا ما أكدته للفنان عادل إمام من قبل حينما تعرض لعدة انتقادات، فقلت له " لم كل الحجارة اللى بيحدفوك بيها دى واعمل منها تمثال أو أقف عليها هتلاقى نفسك أعلى"، وأنا لا يوجد لدى شىء ممكن أعتبره أزمة، مقارنة بما يمر به الكثيرون من أزمات أصعب.
الصورة التي يقدمها الأب بطرس دانيال لرجل الدين، مختلفة تمامًا.. ما السر؟
هذه الجملة قالتها الفنانة فيفي عبده لى من قبل، بعدما جمعني بها موقف في احتفالات رسالة سلام في سهل حشيش، حينما تعاملت معها بصورة طبيعية، فتفاجأت هي لأنها كانت معتقدة أنني سأتجنبها، وأنا أؤمن أنه ليس من حق الإنسان رفض أحد أو إدانته، مهما كانت مهنته، طالما هناك احترام يجمع بين الطرفين، وأعتقد أن سبب اختلافى يرجع إلى التنشئة منذ الصغر والقيم والمبادئ التي غُرست بداخلى من أسرتى.
ماذا يعني الوطن بالنسبة للأب بطرس دانيال؟
الوطن بالنسبة لى هو "بيتي" الذي عشت فيه، الموجود بداخل وطني الأكبر مصر، ولقد لاحت أمامى فرص عدة للخروج من البلاد، وطُلبت للخدمة في دول عديدة مثل كندا، وإيطاليا، والناصرة في الأراضى المقدسة، ولكننى رفضت لأننى أريد الخدمة في مصر، بالرغم من أن الأماكن في هذه الدول لديها كل الإمكانيات، لكننى تمسكت بالخدمة في وطني، لأنه يحتاج الكثير، والحمد لله أطبق حبي لوطني عن طريق أي دور يتم طلبي فيه.
أخيرًا.. ما رسالتك للمصريين في 2019؟
أود أن أقول لهم، كل عام ونحن جميعًا بخير، وإذا أردنا أن تكون 2019 أفضل فيجب أن يجتهد كل منا في عمله لكى يكون العام الجديد أفضل، لأننا نحن من نجعله هكذا، ولأن التغيير بأيدينا.
الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ "فيتو"