رئيس التحرير
عصام كامل

هل نحن أمة متوحشة؟


يهيم البعض عشقا في كل ما يكتب أو يدون أو يحكى بالغرب عن الشرق، وكأنه أنزل بوحي من السماء، والحقيقة أن الكثير من أفكارهم عنا تحتاج إلى مراجعات دقيقة، والرد عليها بلغة علمية بعيدة عن التعصب وحبكة المؤامرة، فربما يحتاجون إليها، أكثر من احتياج العرب أنفسهم لذلك.

ما أقوله لا ينطبق فقط على القضايا الراهنة، أو التي تفجرت مؤخرًا بسبب التأويل الخاطئ للأحداث العامة، أو رؤيتهم للصراعات السياسية في المنطقة، بل على نظرتهم للتاريخ العربي والإسلامي، وأصول العرب وطريقتهم قديما وحديثا في فهم الواقع والتعبير عنه، وأحد أشهر القضايا التي تعرض لها الغرب بالتشويه والقراءة العجيبة علميا واجتماعيا، أسماء العائلات العربية، وخاصة تلك التي تنتهي بأسماء حيوانات. 

وتنتشر منذ قديم الزمان في المنطقة العربية، على امتداد تنوعها الفكري والحضاري والتاريخي، عائلات كبيرة وشهيرة بأسماء حيوانات، منها المزدرَى جنسًا مثل الحمار والبغل والقرد إلى آخر الأسماء التي قد تثير الدهشة والفضول في آن واحد، لمن لايعرف التاريخ العربي جيدا. 

بحثت كثيرا في هذه القضية، خاصة أن بعض المستشرقين، رصد دلائل تاريخية مثيرة حول تسمية القبائل العربية وانتسابها في النهاية لأسماء حيوانات، منهم عالم الأنساب الشهير المستشرق الأسكتلندي "روبرتسن سميث"، صاحب كتاب "دين الساميين"؛ الرجل قال عنا صراحة إن أصولنا تعود إلى قبائل الطوطمية، شأننا في ذلك، شأن القبائل البدائية المتوحشة في أستراليا وأفريقيا وأمريكا الذين كانوا ينتسبون إلى آباء من الحيوانات والنباتات، وكانوا يعبدونها ويتسمون بأسمائها.

بنى "سميث" نظريته في طوطمية العرب على انتشار أسماء قبائل مثل بني أسد، بني ثعلب، بني جحش، بني جراد، بني قرد، بني كلب، بني حمامة، وقائمة طويلة عزّزت لديه الشك في انتماء العرب لأصول من الحيوانات، ورفض الرجل انتساب العرب إلى إسماعيل وقحطان من آباء التوراة. 

وذهب في تحليلاته إلى أن العرب لم يولدوا لذكور من الأساس، ولم تكن أنسابهم تتصل بالآباء، بل كان الزواج عندهم على نفس النهج المتبع في بلاد التبت؛ فالمرأة في هذا النموذج تتزوج من رجلين أو أكثر، وأولادها لا ينسبون لأحدهما، بل ينتسبون إلى القبيلة نفسها، والغريب أن "سميث" ليس وحده الذي يدون تلك الرؤية العجيبة، بل وافقه اثنان من أهم المستشرقين، وهما "ويلكن" و"نولدكه". 

خطورة ما قاله "سميث"، ومن والاه في هذه القضية، جعل الباحثين العرب يجتهدون في البحث لتفنيد تلك الرؤية الشاذة لواحد من أهم باحثي الأنساب في العالم، وعمل "جرجي زيدان"، الأديب والمؤرخ اللبناني في موسوعته تاريخ التمدن الإسلامي على تكذيب هذه الرواية، وانتهى إلى أن "سميث" استشهد بأدلة ضعيفة، ونوادر من تاريخ العرب، فجعل الشاذ من المرويات قاعدة، بينما أغفل المسلمات العامة التي أجمع عليها النسابون العرب، لاسيما أن حكايات العالم القديم أغلبها مأخوذ من الخرافات المأثورة عن الأسلاف.

ما قاله "جرجي"، قال أكثر منه "ابن دريد" في كتابه "الاشتقاق"، وهاجم من أسماهم المشنعين على العرب، بسبب أسماء العوائل والقبائل، واعتبر أن مسميات الجاهلية من أمثال كلب وكليب وخنزير وقرد ونحو ذلك، جرّت على العرب طعونًا في أصلهم بسبب الجهل بتاريخهم ولغتهم الثرية بعكس اللغات الأجنبية.

"الجاحظ" أيضا تعرض لهذه القضية في كتابه "الحيوان"، وأكد أن العرب قديمًا كانوا يسمون أبناءهم تيمنًا بالكلب والحمار والقرد من باب التفاؤل؛ فكان الرجل إذا ما وُلد له ذكر خرج هائمًا على وجهه في الشوارع، ليحصل على نبئه من أقرب اسم يُعرض على سماعه، فإذا ما سمع إنسانا يقول حجرا، سمى ابنه به، ليتفاءل فيه بالقوة والصلابة والصبر؛ فالرجل الشجاع كانوا يرونه شبيهًا للأسد، والفتاة اللطيفة غزالة أو حمامة، وقد جرى ذلك في كافة أمم العالم القديم، ولاسيما تلك التي كانت تعيش على فقه الغزو والحروب الدائمة، وأهل البداوة والتنقل بين نجع وآخر.

هذه القضية ربما تثبت للكثير منا أن الغرب ليسوا آلهة، فما يذكر على شاشاتهم وفي كتبهم عنا، ينقصه الدقة والتروي والبحث وتعدد المصادر، ونقل الصورة كاملة من كل الزوايا. 

الجريدة الرسمية