محمود عبد الدايم يكتب: «حمامٌ صباحي»
آه.. يا لَها مِن مأساةٍ.. على جسدي بقايا رائحةِ امرأةٍ.. منذُ سنواتٍ عشرٍ كنتُ أعشقُ نفسي كثيرًا، عندما تعلقُ بجسدي رائحةُ امرأةٍ.. عندما أمسكُ بـ«خربشة» خفيفة على الظهرِ.. كدمةٍ خضراء أكثر قتامة واضحةٍ في منطقةِ الرقبة.. كنتُ أدورُ حولَ نفسي..
مُختالًا.. معجبًا.. فخورًا بسرقاتي الصغيرة.. معاركي الوهمية.. ونزواتي الدائمة.. كنتُ أشمُّ الرائحة في اليومِ ألفَ ألفَ مرةٍ.. ككلبٍ يتلذذُ برائحةِ صاحبِه الوفي، في كلِّ مرةٍ يدفعُ البابَ قادمًا من بعيد.. كنتُ أحبُّ خصلاتِ الشعرِ الساقطةِ على الكتف.. المختفية باحتراف خلف الأذنِ.. كنتُ كريهًا إلى الدرجةِ القصوى.
فضحتْنى السنواتُ التي مرَّتْ.. تراجعتُ في البداية.. وضعتُ ذيلي بين قدميّ المذعورتينِ.. المضطربتينِ، بعدما لامستْ أصابعُها كفَّ يدي.. وقتما عانقَت المنطقةَ الطريةَ.. الشهيةَ.. في كفِّ يدِها باطنُ يدِي.. غيْرَ أنِّي تمكَّنتُ من تمريرِ السلامِ الدافئِ المضطربِ هذا بنصفِ خسارةٍ.. زاغَ البصرُ قليلًا.. ارتكنتُ إلى سيجارةٍ.. اثنتين.. وفي الثالثةِ كُنْتُ أُشعلُ لها سيجارتها الأولى، لا يُمكن.. بعدما انطفأ لهب نار سيجارتها الأولى.. أصبحتُ أكثرَ خفةً من ذي قبل.. ألقيتُ بالسنواتِ العشرِ المرتعشة في مِنفضة السجائرِ الخشبيةِ القبيحةِ.. وضغطتُ عُقب السيجارة الثالثة بِغلٍّ يصلحُ لكتم أنفاس الخونة.
جميلةً.. كانتْ.. تتأرجحُ على حبلِ عامِها الأخير في الثلاثينيات.. لمْ تخلُ من جنونِ المرحلةِ العمريةِ تلك، وإنْ كانتْ عَيْناها.. رغبتها.. تمتلكُ اتزانَ الأربعينيات... وخبرةَ من اعتادَ لقاء المضطربينَ.. المرتعشينَ.. الباحثينَ عن ركنٍ مظلمٍ للتخفِّي.. كانتْ دافئةً إلى الدرجةِ المطلوبةِ للبقاءِ في ركنِها طويلًا.. كانتْ جميلةً.
قديمًا.. كُنتُ أحبُّ أصابعَ المرأة.. لا أدرى متى وُلِدتْ محبَّتي للأصابعِ.. التفاصيلِ الصغيرةِ.. الانحناءاتِ المدهشةِ بين العُقَلِ.. منذ سنوات..لا أذكر عددها.. كنتُ أتلذذُ بمراقبةِ أصابعِ نساءِ الأسواقِ الشعبيةِ، أتابعُ صُعودَها وهبوطَها في لحظاتِ الشدِّ والجذبِ مع البائع.. في الحدائقِ أُراقبُ ارتعاشاتِها عندما تكونُ في مرحلةِ «اللمس الأولى»، وفي صالاتِ السينما اكتشفتُ أن الأصابعَ ترى في الظلام.. تعرفُ طريقَها إلى المناطقِ الوعرةِ المحببةِ.. في الظلامِ.. عشقتُ الأصابعَ كثيرًا.. بلْ يُمكنني الاعترافُ بأنني أصبحتُ مهووسًا بكل عُقلةٍ فيها إلى درجةِ الجنونِ.. قديمًا كُنتُ أكتفي من المرأة بمتابعةِ سيمفونيةِ أصابعِها.. كنتُ عاشقًا جيدًا للخنصرِ، ودرويشًا جيدًا في حضرةِ الإصبع الأصغر.
مساحة جديدة منحتها لأنفي.. بعدما اكتشفتُ روعةَ أن تدفنَها في ظلماتِ ليلٍ أسودَ حالكٍ.. صِرتُ أغالبُ رغبتي في متابعةِ امرأةٍ – أيّ امرأة- تتركُ شعرَها منسدلًا على أكتافِها.. بمرورِ الأيام تحوَّلتُ لخبيرٍ في أنواعِ «القَصّات»، بل كنتُ خبيرًا في تحليلِ شخصيةِ المرأةِ من شعرِها.. فمنْ تَقصّه قصيرًا إلى المنطقة الفاصلة ما فوق كتفَيْها لا تطلبُ إلا الحريةَ.. التمردَ.. السفرَ..
لم أكن أهوى هذا النوع كثيرًا.. كنت أخشاه حد الرعب.. مَنْ تمسكه بشدة وتمنحه التسريحةَ التقليديةَ «ذيل الحصانِ» لا تنتظرُ منها جديدًا، لأنَّها ببساطةٍ لا تمتلكُ إلا أنْ تهتزَ في العالمِ، كذيل حصان شعرها المتأرجحِ، الذي فقدَ جموحَه بعدما أصبحَ أسيرًا لـ«توكة» باهتةِ اللونِ.. قاحلةِ المشاعر.. كالحتها..!.. أما امرأةُ هذه الليلة فكانتْ من النوعِ الذي يُختصر فيها العالمُ.. عنايتها بشعرها كشفتْ جزءًا من تفاصيلِها.. لم تمنحْهُ القَصَّةَ الهمجيةَ.. ولم تأسرْهُ في زنزانة «التوكة»، بل تركتْهُ منسدلًا يَغدو ويَروح كيفما يُريد، وتركتْني وحيدًا أتابعُ قفزاتِه الهادئةَ المدهشةَ في رقَّةٍ لمْ تخلُ من دعوة للاقتراب.. كانتْ امرأةً خبيرةً في قراءةِ أبجديةِ تلاميذ العشق.. وكنتُ لا أزالُ في صفِّي الأولِ.. يومي الأول.. حصتي الأولى.. فاكتفيتُ بالمتابعة!
العطرُ.. سيدُ الجلسةِ لا شريكَ له.. قطعًا ليس كلُّ امرأة تضعُ عطرًا تستحقُّ أنْ تمنحَها قليلًا من اهتمامِكَ.. توصلتُ إلى النتيجة تلك بعد غيابِها.. عطرُها كان مسيطرًا على الأجواءِ كافةً.. الرائحةُ قادمةٌ من كلِّ الاتجاهاتِ.. تتسربُ من فتحات التهوية في قطار مترو الأنفاق الخانق.. تتراقصُ بخفةٍ محببةٍ في الزوايا المظلمةِ عندَ نهاياتِ الشوارعِ الجانبيةِ كـ«جِنّية البحر»، رائحة تدعوني إلى عشاءٍ رومانسي.. بعدما تضعُ في يدي ورقةً بموعدٍ لا ثالثَ يشاركُنا فيه.
امرأة هذه الليلة.. عطرُها لم يكنْ شبيهًا ببقيةِ العطور.. لم يكنْ قريبَ الشبهِ حتى بالفتاةِ العشرينيةِ التي قابلتُها منذ سنواتٍ خمسٍ.. كانَ أنيقًا.. منفردًا.. متفردًا.. أذكرُ أنَّه لحظةَ حلولِهِ مَحَا بقيةَ الذكرياتِ التي تحملُها ذاكرةُ الروحِ عن العطورِ.. أزالَ ذكرى كُوبري قصر النيل.. الشتاء تحديدًا.. بعدما تخليتُ عن معطفي الشتوي للفتاةِ العشرينية.. التي فشلتُ في السيطرةِ على ارتعاشاتِها.. ليلتها أذكرُ كم كنتُ متيمًا برائحةِ عطرِها التي نسيتها الآن.. تحديدًا لا يذكرها أنفي الآن!
الآن.. لا مزيدَ من الحكاياتِ يُمكن أن تُروَى عنها.. وإنْ كنتُ لا أزالُ راغبًا في الكتابةِ عنها حتى أنتهي منها.. من وجودِها.. بصمةِ أصابعِها في باطن يدي.. الكدمةِ التي حلمتُ أن تتركَها «عربون محبة» في المنطقةِ الفاصلةِ بين أذني وكتفي.. عطرِها الذي يُحاصرني الآنَ وأنا أكتب.. ضحكِتها التي كانتْ تُسقط لؤلؤًا من فمِها.. وهي.. التي يجب أنْ أودّعَها، وأنْ أضعَ النقطةَ الأخيرةَ على الصفحة التي لوثتُها بالحبرِ الأسود.. والحكاياتِ المملةِ التي لا تصلحُ لوصفِ امرأةٍ مدهشةٍ!
النهاية..
نفض رأسه كثيرًا.. رائحة الكحول كانت حاضرة.. مسيطرة.. تنحنح.. حرك جسده نصف العاري من فوق قاعدة الحمام.. ألقي بـ«عُقب السيجارة» الرابعة في وسط القاعدة.. تحرك 3 خطوات.. منح جسده نصف دورة ليواجه المرآة الغارقة في سحابات البخار.
«هذه المدينة قاتلة».. «هذه المدينة كئيبة».. «هذه المدينة رمادية».. «هذه المدينة سيئة».. «هذه المدينة قذرة».. «هذه المدينة لا تُحبني»..
بطول المرآة خط العبارات تلك على سطح المرآة، مستغلًا سحب البخار التي لاذت بسطحها.. يحب دائما لحظات الاختفاء خلف بخار حمامه الصباحي، لثوانٍ عدة واجه العبارات التي كتبها على المرآة.. تلاشت الأحرف.. كلماتها صارت غير مكتملة.. جُملها لا تمنحك شاطئ أمان.. أصبحت مجرد «خربشات» عالقة على سطح المرآة..
مرر يديه عليها.. أزالها بحقد.. ضغط على أسنانه.. تقلصت ملامح وجهه.. أخرج زفيرًا حادًا حارقًا من فمه.. أنفه.. تكونت سحابة صغيرة من البخار على سطح المرآة.. كتب عليها، بعدما وضع نصف ابتسامة ساخرة على وجهه.. معادلة رياضية.. 30x 40 = لا شيء!