محنة الحديث النبوي (4)
اقرأ هذه المعلومة التاريخية الخطيرة، ولن تعجب إذا عرفت السبب! "علماء اللغة والنحو والبلاغة لم يعتمدوا الحديث النبوي كنموذج للاسترشاد، ومثلًا يشرحون به قواعدهم نظرياتهم، فقد اكتفوا بالقرآن الكريم"..
والسبب؛ أن الصحابة والرواة رووا الأحاديث بالمعنى لا باللفظ.. وهذه نتيجة طبيعية لتأخر محاولات كتابة الحديث وتدوينه، إلى ما بعد عهد عمر بن عبد العزيز.. ومن المنطقي أن تتأثر ذاكرات الرواة بمضي الزمن، فكانوا يستعيضون عن الألفاظ التي نسوها بمعانٍ من لدنهم، وشتان الفارق بين روعة وجذالة وعظمة وإعجاز اللفظ النبوي الشريف، وبين لفظ الراوي الذي ربما يختلف معناه عن المقصود باللفظ الأصلي!
أقل ما يوصف به كلام المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم، ما قاله الجاحظ: "ألقى الله على كلامه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والفصاحة والحلاوة".
عن عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي، قال: قلتُ يا رسول الله، إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمعه منك، يزيد حرفًا أو ينقص حرفًا، فقال: "إذا لم تحلوا حرامًا ولم تحرموا حلالًا، وأصبتم المعنى فلا بأس"، فذكر (ذلك) للحسن فقال: لولا هذا ما حدَّثنا.
وأباح رواية الحديث بالمعنى دون سياقه جماعةٌ من الصحابة، منهم: عليٌّ، وابن عباس، وأنس بن مالك، ووائلة بن الأسقع، وأبو هريرة، ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم، منهم إمام الأئمة حسن البصري، ثم الشعبي وعمرو بن دينار وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة.
وقد اختلفت ألفاظ الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فمنهم من يرويه تامًّا، ومنهم من يأتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصرًا، وبعضهم يغاير بين اللفظين ويراه واسعًا إذا لم يخالف المعنى، وكلهم لا يتعمد الكذب وجميعهم يقصد الصدق، ومعنى ما سمع، فذلك وسعهم، وكانوا يقولون: "إنما الكذبُ على من تعمده".
وقد رُويَ عن عمران بن مسلم قال: قال رجلٌ للحسن البصري: يا أبا سعيد إنما تُحدثُ بالحديث أنت أحسن له سياقًا، وأجود تحبيرًا، وأفصح به لسانًا منه إذا حُدِّثنا به ! فقال: إذا أصبت المعنى فلا بأس بذلك.
وأخذ رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه، فقال له يحيى: "يا هذا؛ ليس في الدنيا أجلَّ من كتاب الله تعالى، قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف، فلا تشدد".
وروى البيهقي عن مكحول قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على وائلة بن الأسقع فقلنا له: حدِّثنا بحديث سمعتَه من رسول الله ليس فيه وهم ولا تزيد ولا نسيان، فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئًا؟ فقلنا: نعم وما نحن له بحافظين جدًّا، إنا نزيد الواو والألف وننقص، فقال: هذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظًا، وإنكم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، عسى ألا يكون سَمْعُنا لها منه إلا مرة واحدة؟ حسبكم إذا حدثنا بالحديث على المعنى.
وكان أبو ليلى يروي الحديث مرة بألفاظ معينة، ومرة أخرى بألفاظ مختلفة، وهكذا بغير إسناد، وهذا بسبب حفظه، لأن أكثر السابقين من أهل العلم كانوا لا يكتبون، ومن كتب منهم فإنما كان يُكتب لهم بعد السماع، وكان كثير منهم يروي بالمعنى فكثيرًا ما يعبر عنه بلفظ من عنده، فيأتي قاصرًا عن أداء المعنى بتمامه، وكثيرًا ما يكون أدنى تغيير محيلًا له، وسببًا لحدوث الإشكال فيه، وقد أجاز جمهور العلماء رواية الحديث بالمعنى.
وفي "سنن الترمذي"، عن مكحول عن وائلة بن الأسقع، قال: إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم، ورواية الذهبي في سير أعلام النبلاء: إذا حدثناكم بالحديث على معناه فحسبكم. وقال وكيع عن الربيع بن الصبيح عن الحسن قال: إذا أصبت المعنى أجزأك، وقال: إن لم يكن المعنى واسعًا فقد هلك الناس، وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع، مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة.
وقال سفيان الثوري: إن قلت إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني فإنما هو المعنى، وقيل له: يا أبا عبد الله؛ حدثنا كما سمعت. قال: والله ما إليه سبيل، وما هو إلا المعاني. ومن قوله: لو أردنا أن نحدثكم بالحديث كما سمعناه ما حدثناكم بحديث واحد!
وقد قال الثقات من العلماء: إن الأولى هو إيراد الحديث بألفاظه دون التصرف فيه، ولكن أنَّى ذلك وقد جرى الأمر على غير الأولى!
ومما ذكره المحققون، أن الرواية بالمعنى لا تكون فيما يُتَعَبَّدُ فيه باللفظ كالتكبير والتشهدات، على أن التشهدات قد وردت بألفاظ مختلفة!