رئيس التحرير
عصام كامل

على حزين يكتب: فتاة الاستعلامات.. قصة قصيرة

على حزين
على حزين

عهدي بها وهي تعمل بالسكة الحديد وديعة.. طيبة، رقيقة، مهذبة، هادئة الوجه، بيضاء، عسلية العينين، ملفوفة القوام، وكأن عظامها من خيزران، ناعمة الصوت، والملمس، حلوة الطبع، حسنة الخَلق، والخُلق... أتذكر وأنا طفل صغير.. كانت تلعب معي.. تجري خلفي.. وما أن تلحق بي حتى تضمني بين ذراعيها العاج.. إلى صدرها المرمر ثم تعبئ جيبي بالحلوى.. وحين تغفل عني.. أقبلها، وأجري، فتجري خلفي، وهي تضحك، تمسكني، تضمني مرة أخرى.. وكانت تدغدغ مشاعري الصغيرة.. بين يديها الحاسرة.. فيهتز قلبي طربًا.. وأفرح. 

أذهلتها المفاجأة، واتسعت عيناها دهشة، لحظة أن رأتني، واقفًا أمامها وقد كبرت، وصرت طالبًا جامعيًا ، حدقت في ذهول ، صوبت النظر إليّ ، وصعدت ، وعيناها مرتجفة ، وعلي وجهها شيء غريب.. يشبه صمت المقابر.. ومِسحة " ميكياج " خفيفة.. ترمم وجنتيها.. لكي تصلح ما أفسده الدهر، حينها ابتسمت ، فتفتحت الورود كل الذابلة ، على وجهها المخملي واختفت بصمات الزمن ، حتى كادت تتلاشى تمامًا ، اشتكت لي ، وبكت ، بصوت حزين ، وروت لي ما كان من قرانها ، وكيف باء بالفشل، وأيضًا عن الذين يحاولون الاقتراب منها ، طمعًا في أنوثتها ، وكيف كانت نفر وتفر في وجوههم جميعًا ، ومن يحاول أن يدنو منها ، أو يقترب ، أو حتى من تحدثه نفسه ، بأن يستخف ظله ، ودمه ، تلقنه درسًا في الأخلاق ، لم ولن ينساه ، وتجعل منه عبرة لمن يعتبر.... 

وظلت تحكي ، وتحكي.. وراح شيء ما يتسلل بداخلي ، يشدني نحوها ، ويجذبني بقوة هائلة ، خفية ، لست أدري ما هي.. ربما يكون حنينًا للذكريات.. وأيام الصبا.. ذلك الماضي الجميل.. أو ربما يكون تعاطفًا معها.. أو حبًا.. أو شيئًا آخر لا أدري بالضبط ما هو..؟! 

وقفت أفكر.. وأنا استمع لصوتها الموسيقي، العذب الجميل.. وأنا مشدوهًا.. منجذبًا لها بطريقة غير عادية.. وسألت نفسي..؟.. أي سر فيها..؟ يجذبني إليها هكذا..؟!!.. نعم أنا أعرفها جيدًا.. لكن كل هذا ليس مبررًا، لسر اهتمامي بها المتزايد لها.. يوما عن يوم.؟!!.. مسكينة.. دائمًا كانت تحلم.. ببيتٍ صغير.. وأطفال تهب لهم حياتها.. في كنف زوج يقيها غوائل الدهر.. لكن الحياة ضنت عليها.. حرمتها من أبسط حقوقها.. والدنيا لم تبتسم لها في يوم من الأيام.. حتى تسعد بما تبقى من عمرها.. الذي أنفقت منه الكثير.. في انتظار العدل... ابتسمت لها.. فأمسكت عن الكلام.. وأطرقت تفكر.. ثم هزت رأسها.. غير مصدقة ما ترى.. وراحت تهزني من بين كتفي.. حتى تتأكد أني حقيقة، واقفة أمامها... 

ــ معقول..؟!!.. أنت..؟!!!

أمسكت يدها الناعمة، حنوت عليها.. فأنا الوحيد الذي يستطيع أن يفعل ذلك.. ويكلمها، ببساطة، وبدون تكلف... وكنت أحجز لها في القطار بجواري.. وربما في بعض الأحيان.. أمسكها من يدها العاج، البضة، أمام الناس.. وأناديها باسمها مجردًا.. فتضحك كالربيع حين يقبل.. وهي مقبلة كالنسيم.. وتقول:
ــ انت اتجننت..؟!.. تناديني باسمي.. هكذا أمام الناس..؟!!
فأجذبها من يدها.. لتجلس بجواري.. نتبادل قطائف الحديث.. وقلبي لا أستطيع أن أتحكم في ضرباته المتلاحقة.. وأحس بأن رأسي اصطدمت بالسحاب..
وفي أيامٍ كثيرة.. عندما كنت أعود من الكلية.. أجيئها.. أقف أمامها في صمت.. وأظل أنظر إليها.. من النافذة الزجاجية.. متكئًاعلى الحائط الرخامي.. محتضنًا أجندتي السمراء بين ذراعيَّ.. تفرسها.. وهي لا تشعر بوجودي.. وحين تنتبه للمفاجأة.. تصيح كالطلِّ.. فيتلألأ وجهها كالبدر.. وهي تسألني: في ارتباك لذيذ..؟
ــ لماذا جئت..؟!.. ومن أين أتيت..؟!.. ومذ متى أنت..؟!! 

وحبل من الأسئلة..؟؟!!.. الذي أقطعه بسؤالي المعتاد..؟.. عن القطار الذي سيقلنا.. تهز رأسها مغتبطة.. تطرق هنيهة تفكر.. تخبط بالقلم فوق دفاترها، التي على المكتب.. ترفع رأسها ببطء.. فتلتقى العيون الحائرة.. ألتهم ملامحها ذات العذوبة.. فأذوب شوقًا.. وتوقًا.. تهرب عيناها سريعًا، في وجل، فأومئ برأسي لها.. مبتسمًا وأنصرف...

أجلس على الرصيف المزدحم.. كيوم الحشر بالركاب.. أسمعها في المذياع.. تعلن عن القطارات المتأخرة، والتي في ميعادها.. يجيء القطار.. أقفز في جوفه.. قبل أن يقف على الرصيف.. اجلس بجوار النافذة.. أراقبها من بعيد.. وهي قادمة.. تبحث عني.. وتتلفت ذات اليمين، وذات الشمال.. أناديها، فتنتبه.. تأتي إليَّ مسرعة.. ضاحكة، مستبشرة.. تجلس بجواري، نستأنف الحديث الذي لم يكتمل بعد.. والذي قد يكون هو سر اهتمامي بها.. أنظر في عينيها، فلا أشعر بالزمن.. ويسرقنا لوقت إلى أن نصل.... و....



الجريدة الرسمية