رئيس التحرير
عصام كامل

محنة الحديث النبوي (3)


في الصدر الأول للدعوة، كان كبار الصحابة يتهيبون الرواية عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاءت الأجيال التالية ممن لم تتح لهم فرصة صحبة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلا فترات وجيزة، ربما لم تتجاوز بضعة أشهر، وهؤلاء لم يتحرجوا من الرواية.


قالَ الصحابيُّ الجليلُ، عمران بن حصين، رضي الله عنه: "واللهِ إنْ كنتُ لأرى أني لو شئتُ لحدثتُ عن رسول الله يومين متتابعين، ولكن بطَّأني عن ذلك، أن رجالًا من أصحاب رسول الله سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدتُ، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخافُ أن يُشَبَّهَ لي، كما شبه لهم، فأُعلمُك أنهم كانوا يغلطون (وفي رواية يخطئون)، لا أنهم كانوا يتعمدون".

وروى ابن الجوزي في كتاب "شبهة التشبيه"، قال: سمع الزبيرُ (ابن العوام) رجلًا يُحَدِّثُ، فاستمع الزبير حتى قضى الرجل حديثه، فقال له ابن الزبير: أنت سمعتَ هذا من رسول الله؟ فقال الرجل: نعم! فقال الزبيرُ: هذا وأشباهُه مما يمنعاني أن أتحدث عن النبي! قد لعمري سمعتُ هذا من رسول الله، وأنا يومئذٍ حاضرٌ، ولكنَّ رسولَ الله ابتدأ بهذا الحديث، فحدثناه عن رجلٍ من أهل الكتاب حديثه يومئذ، فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث، وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننتَ أنه من حديث رسول الله!

وأخبرت السيدةُ عائشةُ، رضي الله عنها، أن أبا هريرة حدَّثَ أن رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم، قالَ: "إنْ يكن الشؤمُ ففي ثلاثٍ: الدار والمرأة والفرس"، فغضبت السيدةُ عائشةُ، وقالتْ: واللهِ ما قالَ هذا رسولُ اللهِ قط، وإنما قال: "أهلُ الجاهلية يقولون إن يكون الشؤم ففي ثلاث: الدار والمرأة والفرس"، فدخل أبو هريرة، فسمع الحديث ولم يسمع أوله.

وفي خطبة الوداع التي ألقاها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في آخر حياته، وبعد ثلاث وعشرين سنة من بعثته، وأجمل فيها وصاياه العظيمة وتعاليمه الجليلة، وكانت هذه الخطبة في يومٍ مجموعٌ له الصحابةُ كافةً، وكانوا نحو مائة وخمسين ألفًا، فقد كان اليقينُ أن تأتي هذه الخطبةُ الجامعةُ محفوظةٌ بألفاظها ومعانيها، كما نطقَ النبيُّ بها، وأن يحرصَ الصحابةُ جدَّ الحرصِ على حفظها، وأن يؤدوها إلى مَنْ بعدهم كما سمعوها، ولكنهم برغم ذلك كله تركوها بغير قيدٍ كتابيٍّ أو ذهنيٍّ؛ مما أسفر عن تحريفها.

ولنا أن نعلم أن الصحابة، رضوان الله عليهم، لم يكونوا كلهم على مستوى واحد في العلم، والتقوى ولا في الفقه والعلم، ولا نمطًا متساويًا في الإدراك والفهم، وإنما كانوا في ذلك طبقات متفاوتة، ودرجات متباينة، شأن الناس جميعًا في هذه الحياة، على مر الأيام والقرون.

قال ابن خلدون في مقدمته: "إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصًّا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وسائر دلالته، بما تلقوه من النبي، صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعه منهم، وكانوا يسمون لذلك "القراء"، أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية، فاختص من كان منهم قارئًا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ وبقيَ الأمرُ كذلك صدر الملة".

والاجتراء على الرواية، صدقًا وكذبًا، عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن بالأمر المستجد، بل وقع ذلك أثناء وجوده على الأرض، بين ظهراني الناس، من بعض المنافقين وضعاف النفوس.

جاء بشير بن كعب العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث، ويقول: قال رسول الله، قال رسول الله.. قال: فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا بن عباس مالي أراك لا تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع! قال ابن عباس: إنا كنا مدة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبة والذَّلول (أي اجترأوا على الكذب على رسول الله) لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف!

رُوي عن أبي بكر بن عياش قال: سمعتُ المغيرةَ يقول: لم يكن يصدق على عليٍّ في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود.

ونأتي لنقطة حاسمة في هذا الملف؛ فليعلم الجميع أنه ليس كل ما جاء من الأحاديث عن الصحابة مما رووه عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ودُوِّنَ في الكتب، قد سمعوه كله بآذانهم من النبي مشافهة، ولا أخذوه عنه تلقينًا، وإنما كان يروي بعضهم عن بعض، فمَنْ لم يسمعْ من الرسولِ كان يأخذ ممن سمع منه صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا رواه لغيره لم يعزه (يرجعه) إلى الصحابي الذي تلقاه عنه تلقينًا، بل يرفعه إلى النبي بغير أن يذكر اسم هذا الصحابي؛ ذلك أن مجالس النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، كانت متعددة، وتقع في أزمنة وأمكنة مختلفة، ولا يمكن أن يحضرَ الصحابة جميعًا كلَّ مجلس من مجالسه، فما يحضره منها بعض الصحابة لا يحضره البعض الآخر.

وعلى سبيل المثال فقد ذكر ابن القيم في "الوابل الصيب": إنَّ ما سمعه ابنُ عباس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يبلغ العشرين حديثًا، وعن ابن معين والقطان وأبي داود في "السنن" أنه روى تسعة أحاديث وذلك لصغر سنه، ومع ذلك فقد أسند له أحمد في مسنده 1696 حديثًا!

وقال الآمدي في كتاب "الإحكام في أصول الأحكام": إن ابن عباس لم يسمع من رسول الله سوى أربعة أحاديث لصغر سنه، ولَمَّا روى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، "إنما الربا في النسيئة"، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يزل يلبي حتى رمى حجر العقبة، قال في الجزء الأول لما روجع فيه، قال: أخبرني به أسامة بن زيد، وفي الجزء الثاني: أخبرني به أخي الفضل بن العباس.

ولما روى أبو هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: من أصبح جنبًا في رمضان فلا صوم له، راجعوه في ذلك، فقال: ما أنا قلته ورب الكعبة، ولكن محمدًا قاله! ثم عاد فقال: حدثني به الفضل بن العباس.

وروي عن البراء بن عازب قال: "ما كلُّ ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابنا ببعضه".

هذا الاستسهال في الرواية إنما جاء في غالبه من منطلق حسن النية، والرغبة في الإسراع بالإخبار والإبلاغ، ولم يكن معظم الصحابة عليهم رضوان الله إلا صادقين، إلا أن التفاوت في العلم والحفظ كان المسئول عن الأخطاء التي شابت الأحاديث آنذاك.
الجريدة الرسمية