«مش كل البشر فرحانين».. «صلاح جاهين» الضحكة في حضن الاكتئاب
رسم البسمة على وجوه المصريين بريشته «الكاريكاتورية» وأدخل البهجة على القلوب بـ«خلي بالك من زوزو»، وأشعل الحماس بحب الوطن بأغنية «المصريين أهما»، وخطف قلوب الصغار والكبار أيضا بـ«الليلة الكبيرة».. صلاح جاهين، العبقرى الفذ، صانع البهجة الذي قهره الاكتئاب.
صلاح جاهين لم يكن الوحيد الذي عاش داخل دوامة هذا المرض اللعين، الذي أطلق عليه تشرشل اسم «الكلب الأسود» الذي ينهش صاحبه ويسحبه إلى داخل دوامة العزلة والكآبة.
ويفسر الدكتور وائل حسن يوسف، مدرس علم النفس بأكاديمية الفنون، حالة صاحب الرباعيات الخالدة وما الذي أصابه، وهل هناك علاقة بين الإبداع والإصابة بالاكتئاب، خلال التقرير التالى:
يصف الدكتور وائل يوسف، صلاح جاهين بالحالة المتفردة، قائلا: «هو المبدع الفيلسوف الذي سقط في براثن الاكتئاب، ولد الإبداع من رحم المعاناة»، مشيرا إلى أن حركة الضباط الأحرار وثورة 23 يوليو 1952، كانت مصدر إلهام لجاهين حيث قام بتخليد جمال عبد الناصر فعليًا بأعماله، وسطر عشرات الأغاني.
ويوضح الدكتور وائل يوسف، أن «صلاح جاهين أصيب بحالة اكتئاب شديدة بعضها يرجع لمعاناة شخصية والبعض الآخر يعود لمعاناة مجتمعية، والتي على خلفيتها بدأ كتابة مجموعة من الأعمال قال نفسه عنها فيما بعد إنها ليست ذو قيمة مثل فيلم «خلى بالك من زوزو»، فكان مؤمنًا بشخصية جمال عبد الناصر وبثورة 1952، بشكل يفوق تصور العقل البشري.
كان ناصر مصدر إلهام لجاهين، لكن ما حدث في هزيمة 5 يونيو 1967، أدت إلى إصابة جاهين بالكآبة وتحولت شخصيته بشكل جذري، وأصبحت النكسة هي الملهم الفعلي لأهم أعماله "الرباعيات" والتي قدمت أطروحات سياسية تحاول كشف الخلل في مسيرة الضباط الأحرار، والتي يعتبرها الكثير أقوى ما أنتجه فنان معاصر».
ويشير إلى أن هذه عادة المثقفين والفنانين من نوعية شخصية "جاهين"، فإيمانه بالثورة إيمان راسخ، وعدم قدرته على تخيل فشلها أو تقبل أي نوع من أنواع الاهتزاز في شخصية الرئيس جمال عبد الناصر، جعله يسقط فريسة لمرض الاكتئاب.
ويضيف الدكتور وائل يوسف: بعد النكسة دخل جاهين في دوامة السؤال الأصعب «معنى الوجودية والحياة.. ولماذا أعيش؟» وكيف تخرج البلد من محنتها؟، ليصل الأمر معه إلى حد جلد الذات.
ويؤكد أن "رباعيات جاهين" جملة وتفصيلا، تحمل في طياتها معاني كثيرة ودلالات نفسية رهيبة تدل على معاناة جاهين وعدم قدرته على ممارسة الحياة بشكل طبيعي، وشخّصت حالته بـ«اضطراب وجداني ثنائى القطب»، مشيرًا إلى أنه وصل لتلك الحالة، كنتيجة لحياة مأساوية عاشها ومعاناة في حياته الشخصية، ثم معاناته واهتزازه بعد نكسة 67، الذي أدى بالتبعية إلى أحساسه بأنه لا قيمة أو معنى له ولفنه، وتصديره فيما بعد بأنه «المهرج الكبير» وأن الحياة بالنسبة له ليست ذا قيمة.
ويوضح الدكتور وائل يوسف، أن في كثير من الأحيان يولد الإبداع من رحم الاكتئاب، فهناك العديد من الدراسات التي تخصصت في فهم تلك الحالة وخاصة عن «الكوميديا والكوميديان» فهم أكثر الناس المعذوبون على الأرض، موضحًا أن شخصية الكوميدى على الرغم من معاناته من أزمات نفسية شديدة إلا أنه يخرج من داخله مادة تثير الضحك والفكاهة، وهذا ما أكد عليه الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق في كتابه «الفكاهة والضحك».
ويتابع: هناك كثير من الكتاب أنتجوا عددًا لا حصر له من الإبداع من رحم الكآبة، وهذه الحالة يطلق عليها علماء النفس والتحليل النفسى لهم بـ«حيلة التسامى» وهذا ما شهدناه في روايات صاحب نوبل الأديب نجيب محفوظ، حيث كان يعارض النظام في أعماله الروائية وليس في الحقيقة، وهذا كان حال كثيرين مثل بيتهوفن وديستوفسكى وصلاح جاهين أيضا، والاكتئاب محفز للإبداع والذي يمثل في تلك الحالة نوع من أنواع التنفيس الإنفعالى للمعانة بداخل النفس، ولكن عند حد معين ثم ينقلب على صاحبه تماما، وهذا ما ظهر جليا مع صلاح جاهين ففى فترة من فترات حياته وصل لحالة اكتئاب زائدة عن الحد فتوقف إبداعه لعدة سنوات.