هجرة العقول ونزيف الثروات (1)
إذا كنت تظن أن دول الشمال المتقدمة (الغنية) في أوروبا وأمريكا قد أقامت حضارتها وتفوقها على سواعد أبنائها وعقول متعلميها، فأرجو قراءة هذا المقال إلى نهايته!
الواقع أن دول الشمال قد نهضت وما زلت تبني نصيبا كبيرا من ريادتها وتفوقها على سواعد أبناء دول الجنوب، ولكن بشكل جديد وهو اجتذاب امهر العمال وأذكى العقول بالهجرة إليها من كل دول الجنوب، وفي كل المجالات، بعد أن تخلت عن الاحتلال العسكري الذي استمر لعدة قرون.
ففي الوقت الذي تغلق أوروبا أبوابها في وجه الهجرة غير الشرعية من آسيا وأفريقيا، وتغلق أمريكا أبوابها في وجه المهاجرين من أمريكا الوسطى والجنوبية، تتسارع الجامعات الأمريكية والأوروبية في اجتذاب أذكى الطلاب من بين طلاب الثانوية العامة في شكل منح دراسية لأبناء الجنوب للدراسة في أعظم جامعاتها، وبعدها لن يعودوا إلى الجنوب نهائيا.
الأخطر، وهو الحادث اليوم، هو اجتذابهم بعد إتمام دراستهم الجامعية وبعد أن تكون قد أنفقت عليهم بلدانهم وأسرهم دماء قلوبهم في تربيتهم وتعليمهم، ثم تجتذبهم الدول الغنية بإغراءات كثيرة أهمها الدخل المادي العالي ومستوى المعيشة المرتفع، والذي لا تقدر عليه الدول الفقيرة.
والأشد خطرا والأكثر ألما ومرارة، هو اجتذاب المبتعثين من دول الجنوب للدراسات العليا في جامعات دول الشمال، وخاصة المتفوق منهم، في الاستمرار للعمل لدى جامعاتها وعدم العودة إلى البلاد التي بعثتهم وصرفت عليهم، وبذلك يستمر تفوق وغنى الغني ويزداد الفقير فقرا.
ولكي لا يكون السرد نظريا، أعطيك بعض الأمثلة من الواقع المصري، حيث تمنح الجامعات الدولية في مصر مثل الجامعة الأمريكية والبريطانية والألمانية وغيرها منح دراسية لأوائل الثانوية العامة كل سنة، وبعدها ينتقلون إلى العيش في بلدان هذه الجامعات. وكذلك تمنح الجامعات الأوروبية والأمريكية منحا دراسية للمتفوقين في الثانوية العامة المصرية.
وكذلك الحال بعد انتهاء الدراسة الجامعية خاصة في كليات الطب، حيث تجتذب ألمانيا وإنجلترا حاليا أعدادا كبيرة من الأطباء المصريين، وفي ألمانيا يقبلون الأطباء بدون معادلة ولكن بمستوى متوسط من إجادة اللغة الألمانية، وفي إنجلترا، تم التغاضي عن اختبار اللغة الإنجليزية الصعب والاكتفاء باختبار سهل لكي تحصل على كل المتقدمين، وذلك بعد أن عانت مستشفياتها من عجز شديد في الأطباء.
أما الحديث عن عودة المبتعثين إلى دول الشمال من الجامعات المصرية إلى جامعتهم الأم، فحدث ولا حرج، فهي لا تتعدى ١٠٪ من المجموع الكلي للمبتعثين. وحتى من عادوا، أما اتجهوا شرقا إلى جامعات الخليج العربي، أو عادوا أدراجهم إلى دول الابتعاث مرة أخرى.
ما هي الأسباب، وما هي النتائج المترتبة على هجرة أعظم العقول من الجنوب إلى الشمال؟ وما هي الاستراتيجيات التي وضعتها بعض الدول خاصة الهند والصين وجنوب أفريقيا لاستعادة أعظم ثرواتها وهي العقول المهاجرة؟ فهذا حديث المقال القادم بإذن الله تعالى.