خيرى شلبي عن «جاهين»: قلم وريشة في حدائق البنفسج
وسيلتان خطيرتان أثّر بهما الفنان صلاح جاهين في وجدان الشعب العربى، وفى الرأي العام العربى كله.. هاتان هما الصورة الشعرية والصورة الكاريكاتورية.
استخدم «جاهين» الصورتين، سواء القصيدة المكتوبة أو اللوحة المرسومة، فالصورة الشعرية عنده مرئية ومجسدة رسمتها الكلمات بالريشة، أما رسوماته وخطوطه فهى تنطق بالمطلوب.
ولا يتناقض قاموس «جاهين» الشعرى مع خطوطه مطلقًا فالمفردات واحدة، وعندما تنظر في لوحاته وقصائده وأغانيه وأوبريتاته تجد أنك أمام عالم مصرى حافل وثرى.
شخصياته تعكس الواقع بصدق وأمانة بقدر ما يعكسها الواقع، وتتميز براعة الخطوط في ريشته بأنها تلتقط الملامح الحقيقية الأصيلة للشخصية المصرية، ورسوماته ككل أشعاره تأملات تتسم بالعمق والنفاذ والملاحقة.
القاموس الشعرى الذي يستخدمه «صلاح» في قصائده مصرى صرف، استقاه من لغة المأثور الشعبى العريق من مأثورات وحكم وأمثال العامة من رباعيات «ابن عروس» على وجه الخصوص الشاعر الذي كان يعيش في عصر مراد بك وإبراهيم بك، وكان قاطع طريق تحول إلى درويش ومتصوف ينطق الحكمة في رباعيات بالعامية المصرية الناضجة.
اقتفى «صلاح» أثر «ابن عروس» ونسج على منوالها حتى لتبدو الروابط بينها وثيقة جدا.
هذه الروح الشعرية الشفافة التي ملأت حياتنا بالبهجة والفرح والغناء والقفشات الضاحكة كانت تنطوي على شعور فائق بالتعاسة، وهو شعور ينبع من يقظة الضمير عند الشاعر، وهو هنا محكوم بموقفين أساسيين أحدهما فلسفي يتحكم في رؤيته للوجود والحياة والكون بوجه عام، والآخر سياسي يتحكّم في رؤيته للواقع والظروف العالمية المحيطة به، والشاعر بين الموقفين مثقل بالهموم بعضها غامض لا يمكن للشاعر تفسيره، وبعضها واضح يفزع الشاعر من تفسيره.
كان «جاهين» يبدو في أغانيه وأوبريتاته على درجة كبيرة من الابتهاج والتفاؤل، في حين يبدو في قصائده على درجة كبيرة من التشاؤم والحزن والكآبة، فكان يبدو كالفارس السجين بين جدران الهموم تحيطه الآمال المحبطة، والقيود الرقابية والكوابيس.
وتتمثل أزمة صلاح جاهين على المستوى السياسي في افتقاده للديمقراطية وذعره من سيادة الجبن على الأخلاق وتكميم الأفواه فقال في رباعياته:
ملعون في كل كتاب يا داء الخرس
الصمت قضبان منسوجين عنكبوت
بيتشندلوا الخيالة فيه بالفرس
بيتشندلوا الخيالة وايش الحال بقى
عصافير غناوى رقيقة حياتها في الزقزقة
وأنا قلبى طير خير إن ماغناش مات
---
المصدر: مجلة نصف الدنيا - ديسمبر 1999.