موسى صبرى يكتب: ليلة هروب «جاهين»
لعلني من أوائل الصحفيين الذين رأوا صلاح جاهين قبل أن يحترف الصورة والمقال، كنت أرأس تحرير مجلة الجيل منذ أكثر من 30 عاما، وكانت تعمل معنا فتاة تخرجت في كلية الحقوق، وكان والدها مستشارًا بالقضاء، وقالت لي ذات صباح إن لها شقيقًا يهوى الرسم.
وجاء الشاب صلاح جاهين ومعه رسومه، وكانت وجوها لعدد من الساسة وأهل الفن، وبهرتني الرسوم وأسرعت إلى المرحوم على أمين اقترح تعيينه مقابل مكافأة 10 جنيهات.
لكن على أمين لم يقتنع ورفض اقتراحي، واختفى صلاح جاهين، وبدأت رسومه تظهر على صفحات مجلة «صباح الخير» ولمع اسمه، وأصبح على كل لسان في سنوات قليلة.
قرر على أمين أن يجدد شباب أخبار اليوم، وقرر جذب صلاح جاهين إليها، وعرض عليه مرتبا مغريا تجاوز 200 جنيه، وقبل «صلاح» وأعد له مكتبًا خاصًا، وبدأ يرسم لكنه شعر بالضجر والملل بعد أسابيع قليلة، وقرر العودة إلى صباح الخير وبمرتب أقل.
قلت له: لماذا ياصلاح؟ أنت هنا في صحف توزع أرقامًا خيالية، ومرتبك ضخم وحولك ألمع وأكبر أصحاب الأقلام في مصر.
فأجاب «صلاح»: بكل الصدق لقد شعرت أننى غريب في أخبار اليوم، فعندما دخل على جرسون البوفيه يرتدى جاكتة بيضاء وبنطلونا أسود وقدم لى القهوة على صينية فضية أنيقة انتابنى إحساس بالخوف.. أنا لم اعتد على هذا الجو المنشى، لا أطيق حياة القصور، أريد أن أكون في مكتب مع عدد من الزملاء الأحباء كأننا أسرة واحدة تعيش في بيت واحد، ويسعدنى أن نأكل معا سندوتشات الفول والطعمية، ونتخاطف قرون الفلفل.
وتابع صلاح: أريد أن أصيح بأعلى صوتى أنادى جرسون البوفيه: هات واحد شاى كشرى وصلحه، ويجيئنى الجرسون بالشاى في كوب على صينية متآكلة، منظر الجرسون بملابسه البالية يريحنى فيكفينى ابتسامته.
وهرب صلاح جاهين من أخبار اليوم.. هرب من القصر إلى المساكن الشعبية.
ثم بدأ يكتب الزجل والشعر والقصة والسيناريو والحوار وأشبع هوايته للتمثيل، وبدأت كلمات صلاح بعد رسومه تهز مصر من أقصاها إلى أقصاها، لكن بقى العبقرى العملاق كما هو.. احتفظ بجوهره.. بقى يرقص ويغني في جلساتنا الخاصة.
بقى لا يعرف موعدًا لصحوه ومنامه وطعامه.. فشل في أن يكون أنيقا.. ترك الفنان لكل شيء في نفسه وتضاعفت بدانته، وبدأ يشكو أمراض الجسد، ثم تمزقه أمراض النفس.. وكانت هي مأساته.. ودهمته مشاعر الاكتئاب.
ومات صلاح جاهين مكتئبا، وراح في إغماءة استمرت 6 أيام.. لا أحد يدرى ماذا كان يعانيه في إغماءته حتى حانت لحظة الوداع، هل هي ضربة 67 التي توهته في ضياع الاكتئاب كما نعرف.. هل هي صراع عبقرياته المتعددة التي لا يحتملها جسد إنسان واحد؟ هل هي أنين قلب تسيده الحب فحاربته الأحقاد؟
لست أدرى، لكن الذي أدريه أننا فقدنا صلاح جاهين.. فقدنا بعضا من عمرنا فوق التراب.. إن العباقرة لا يموتون، كما يموت سائر البشر.
---
المصدر: مجلة «آخر ساعة» العدد 2688 عام 1986