محنة الحديث النبوي (2)
كان الصحابةُ ينهوْن عن روايةِ الحديث، وكانوا يتشددون في قبول الأخبار تشديدًا قويًّا، جمع الصديقُ الناسَ، بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديثَ تختلفون فيها، والناسُ بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسولِ الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحِلُّوا حلاله وحرِّموا حرامه.
وروى ابن عساكر عن محمد بن إسحاق، قال: أخبرني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال: ما مات عمر بن الخطاب، حتى بعثَ إلى أصحاب رسول الله، فجمعهم من الآفاق، عبد الله بن حذيفة، وأبا الدرداء، وأبا ذر، وعقبة بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا: تنهانا؟ قال: لا، أقيموا عندي، لا والله، لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم، نأخذ منكم ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات.
وروى الذهبي في "تذكرة الحفاظ" عن شعبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه أن عمر حبسَ ابنَ مسعود، وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، فقال: قد أكثرتم الحديثَ عن رسولِ الله.. وكان قد حبسهم في المدينة ثم أطلقهم عثمان.
وروى ابن عساكر عن السائب بن يزيد، قال: سمعتُ عمرَ بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركنَّ الحديثَ عن رسول الله، أو لأُلحقَنَّكَ بأرضِ دوس (أي يعيده إلى بلده الأصلي).
وقال لكعب الأحبار: لتترُكنَّ الحديثَ عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة.. وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان. وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد، واللفظ لابن سعد، قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثًا لم يسمع به في عهد أبي بكر، ولا في عهد عمر، فإنه لم يمنعني أن أحدِّثَ عن رسول الله ألا أكون من أوعى أصحابه، إلا أني سمعته يقول: من قال عليَّ ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار.
وفي جامع "بيان العلم وفضله" لحافظ المغرب ابن عبد البر عن الشعبي عن قرظة بن كعب، قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر إلى صرار، ثم قال لنا: أتدرون لِمَ مشيتُ معكم؟ قلنا: أردتَ أن تشيعنا وتكرمنا؟ قال: إنَّ مع ذلك لحاجةً خرجتُ لها، إنكم لتأتون بلدة لأهلِها دويٌّ كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككُم.
قال قرظة: فما حدثت بعده حديثًا عن رسول الله، وفي رواية أخرى: إنكم لتأتون أهلَ قريةٍ لها دويٌّ بالقرآن كدوي النحلِ فلا تصدوهم بالأحاديث لتشغلوهم، جَوِّدوا القرآنَ، وأقِلُّوا الروايةَ عن رسول الله، وأنا شريككُم، فلما قدم قرظة قالوا: حدِّثنا! فقال: نهانا عمر.
وكان عمر يقول: أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به.
وروى ابن سعد في "الطبقات" عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدث عن النبي حديثًا حتى رجع.
وسئل عن شيء فاستعجم (سكَتَ)، وقال: إني أخاف أن أحدثكم واحدًا فتزيدوا عليه المائة!
وعن عمرو بن ميمون، قال: اختلفتُ إلى عبد الله بن مسعود سَنَةً، فما سمعته فيها يحدث عن رسول الله، ولا يقول: قال رسول الله، إلا أنه حدَّثَ ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسولُ الله، فعلاه الكربُ حتى رأيتُ العرقَ يتحدرُ عن جبينه! ثم قال: إن شاء الله، إما فوق ذاك أو قريب من ذاك، وإما دون ذاك.
وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن بن كعب، قال: قلت لأبي قتادة؛ حدثني بشيء سمعته عن رسول الله، قال: أخشى أن يزل لساني بشيء لم يقله رسول الله.
وأخرج البخاري عن السائب بن يزيد، قال: صَحِبتُ طلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والمقداد بن الأسود، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم، فما سمعت أحدا منهم يحدث عن رسول الله، إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد.
وفي شرح هذا الحديث، قال ابن بطال وغيره: كان كثير من الصحابة لا يحدثون عن رسول الله خشية المزيد والنقصان.. إلى هذا الحد البعيد كان احترام الصحابة لكلام رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وتقديسهم لتعاليمه، وتقديرهم لصحبته.
ونستكمل في المقال القادم بإذن الله تعالى.