الحاشية والسلاطين الأربعة
في التاريخ قصصٌ مثيرة، الخيط الرئيسي فيها هو الصراع بين الخير والشر بين الحب والحقد بين الحرب والسلام.. صراع داخل الإنسان سرعان ما يطفو على السطح ويصنع أحداثًا تاريخية تبقى في ذاكرة الزمان لكل من أراد أن يعرف الحقيقة، غير أن الإنسان يقرر دون أن يتدبر فتتكرر الحروب ويبقى الدمار هو العنوان الأعرض، وتعاسة الإنسان هي المحور الذي يصارع من أجل دفاعه عن نفسه، ولكنه سرعان ما يقع في المحظور.
تزوج السلطان مراتٍ ومراتٍ لكي ينجب ولدًا يُورثه الحكم من بعده، غير أن إرادة الله شاءت أن يبقى محرومًا.. السلطان يصارع من أجل البقاء في ابنه، والحاشية مشغولة بمصالحها من بعده، والحال كما هو دون تقدم أو تطور، الكل يخشى من مصيره بعد رحيل السلطان، والسلطان مشغول بما ستؤول إليه مملكته التي توسع فيها احتلالا واغتصابا حتى أصبح يقبع على أرض ربما لا يعرف حدودها.
لم تتوقف حدود الحاشية عند مطالبة أئمة المساجد أن يدعوا للسلطان بذرية تأتي من بعده تمتلك ما يترك، بل إن بعضهم استجلب حكيمًا صينيًّا.. زار الحكيم قصر السلطان وظل يقرأ تعاويذ على عشبة مقدسة يقال إن لها مفعولًا نافذًا حتى انتهى من تعاويذه وقدمها للسلطان في شربة ماء وقدم مثلها لزوجته.
مرت الأيام والحاشية تتأمل وجه السلطان كل يوم وتراقب الزوجة كل لحظة حتى لاحظوا تغييرًا على الزوجة وزفوا الخبر إلى العامة.. علقت الزينات وأمر السلطان بالعطايا لكل الشعب فرحا بما ستأتي به الأيام المقبلة.. في اليوم الموعود خرج الحكيم على السلطان يبشره بأربعة أطفال ذكور يحملون ذات الملامح.. تطابقت قسمات وجوههم إلى حد الدهشة.. فرح السلطان وأمر بالعطايا للحكيم الصيني ومساعديه.
لم يكن الحال هو نفسه على الحاشية التي اجتمعت لتناقش أي واحد فيهم سيكون سلطانًا؟.. بعد مناقشات وحوارات اتفقوا على معاملة الأربعة معاملة ولي العهد.. تمضي الأيام والشهور، والذكور الأربعة لا يعرف أحد الفروق بينهم غير أن الحاشية تتعامل مع كل واحد منهم على أنه السلطان القادم.. شكا السلطان للحكيم في مجلسه بأن طفلين من الأربعة مصابان بالتبول اللاإرادي.
قبل أن يتحدث الحكيم فوجئ السلطان بالحاشية تهنئ وتبارك.. اندهش السلطان على ماذا يباركون؟ وقف أحدهم وقال له: إن هذا يعني يا جلالة السلطان أن من بينهما سلطان يرفض الانصياع للحاجة البشرية فيقضيها على سريره.. إن هذا معناه تؤدة لا تسرع فيها تحت أصعب الظروف.. فرح السلطان بالتفسير ورفض ما قاله الحكيم عن دواء أو علاج غير أنه للحظة قال لهم: هذا معناه أن الطفلين الآخرين لا يصلحان للملك؟!!
وقف واحد من حاشيته ليقول: جلالة السلطان على العكس إنهما يصلحان لأنهما يشبهان جلالتك فقد حكمت بلادنا لعصور مع أنك لا تتبول على نفسك.. انفرجت أسارير السلطان مبديًا اقتناعه بما قيل وطلب الأطفال الأربعة ليستعرضوا بسيوفهم الطفولية الصغيرة فنون القتال أمام الحاشية.. خرج الأول وهو ممسك بسيفه يتراقص به في حركات لولبية محترفة وسط تصفيق الحاشية وإعلان اندهاشها بأدائه وقدرته على العرض الباهر.
خرج الثاني ممسكا بسيفه من الناحية العكسية فانزعج السلطان مشيرًا إلى مدربه أن يعلمه كيف يمسك بالسيف.. هنا أطلق واحد من الحاشية صوتَ إنذارٍ: جلالة السلطان.. دعه كما هو، إن ابنك هذا حكيم؛ فكل الناس يمسكون بالسيف من قاعدته أما هذا فإن له شأنًا عظيمًا.. يرى ما لا يراه الناس فإن حكم جاء للمملكة بما لا يأتي به غيره.. سعد الملك بابنه الثاني وانفرجت قسمات وجهه وأمر بإدخال الثالث.
دخل الثالث يتحرك بثقة مفرطة.. يدور بسيفه على الجلوس في سرعة وخفة غير أنه سقط في بركة المياه داخل القصر، ولم يتحكم في نفسه.. غضب السلطان من تصرفه الذي يدل على عدم مهارة إلا أن واحدًا من الحاشية وقف معلنًا أن يتركوه فهذا هو السلطان الذي أدرك مغزى الحياة؛ فقد خلق الله من الماء كل شيء حي.. يا جلالة السلطان: هذا هو السلطان القادم الذي سيمد الله في عمره ويمنحه أسبابا لحياة أمتك.. سعد السلطان بهذا التفسير العبقري وأمر بإدخال الرابع.
دخل الرابع بلا سيف واضعا في فمه "مزمارًا"، وبدا أمام الحضور طفلًا ساذجًا تصل سذاجته إلى حد العته.. أحمر وجه السلطان وأصيب بخيبة أمل فأمر بقتل مدربه.. هنا يتدخل واحد من الحاشية وقال: يا جلالة السلطان ليس لها إلا هذا الابن الذي وهب رمزًا "المزمار" بدلا من السيف.. المزمار يا جلالة السلطان واحد من علامات السحرة، وكما تعلم جلالتك كيف كان السحرة أول من آمن بموسى.. إن هذا هو السلطان المؤمن.. لم يتمالك السلطان نفسه، ووقف منحنيًا أمام الرابع سعيدا بما سمع من تفسير.
أمر السلطان بفض مجلسه وخرجت الحاشية سعيدة بتنصيبها للأربعة كسلاطين للمستقبل.. حافظوا على وجودهم واستطاعوا في جلسة واحدة أن يصنعوا من كل طفل ديكتاتورا!!