اسمعوه أو اسجنوه
هذا بلاغ لمن يهمه الأمر ضد الدكتور محمود عمارة خبير الاقتصاد الزراعي ومؤسس الجالية المصرية في فرنسا، فقد اعتاد الرجل منذ عرفته قبل عشر سنوات على استفزاري وتحريضي على سياسات اقتصادية وزراعية تنتهجها الدولة في رحلة بحثها عن مستقبل أفضل للمواطن المصري، فما من جلسة تجمعني به إلا وتحملني أفكاره على أجنحتها لتحط بي في مصر أخرى غير هذه التي تعاني أزمة اقتصادية طال أمدها.
تنتهي الجلسة لينصرف هو لكن ما قاله يظل بداخلي يصارع ترسانة من قرارات تحكمها ترسانة أخرى من قوانين خلقت- وفقًا لرؤيته- مناخًا غير صحي لمن يفكر في الاستثمار، وطالما خرجت من هذا الصراع دون أن أحسم أمري، هل الرؤى التي يحملها "عمارة" قابلة للتنفيذ، أم أنها مجرد نظريات لا مكان لها سوى خياله؟
يتحدث الدكتور عمارة عن الزراعة فأعجز عن الرد، وأنا الفلاح الذي قضى طفولته وسنوات من شبابه بين المصارف والترع، وتآكلت أنامله من جني القطن وخشنت يداه من الإمساك بالفأس، وتورمت قدماه من دودة الأرز، فالزراعة التي يتحدث عنها الرجل تختلف عن التي مارستها، فالأولى في الصحراء البكر، والثانية في الدلتا العجوز، والأولى يراها متعة، وفي الثانية العذاب، والمستقبل في الأولى، والثانية مصيرها الانقراض.
هذا التباين بين الزراعة في الدلتا ونظيرتها في الصحراء يجعلني عاجزًا عن الرد على عمارة، أما التباين الأكبر الذي يجعلني متلقيًا فقط لما يقوله فهو أن ممارستي للزراعة كانت في مساحة ضيقة لأكل العيش، أما رؤاه فتخص الاستثمار الذي يضمن أكل العيش وتوفير العملة الصعبة من ناتج التصدير، ولأن ما يقوله "عمارة" يحتاج لخبراء فقد رأيت إحالته بأفكاره من خلال هذا البلاغ لمن يهمه الأمر، فإما الاستفادة من أفكاره.. وإما سجنه بتهمة التحريض على سياسات الدولة الزراعية.
وحتى أسهل المهمة على من بيده الأمر.. سألت الدكتور محمود عمارة عن رغبته في تولي مسئولية ما، فانتفض الرجل وأعاد إلى ذاكرتي ما تم عرضه عليه قبل وأثناء فترة حكم جماعة الإخوان. ثم تحدثت معه عن الواقع المصري الذي لا يتناسب ورؤاه، خاصة أننا نعاني أزمة في مياه الري، وأخرى خاصة برغبة المواطن في البقاء داخل الدلتا، كما أن الاقتصاد المصري لا يتحمل حاليًا تنفيذ هذه الرؤى.
لكني فوجئت به يمتلك حلولًا لكل المشكلات، ثم سألته عن علاقته بالزراعة وهو متخصص في القانون، فأحالني إلى تجاربه الزراعية في فرنسا وأمريكا والمغرب وغيرها من الدول، ثم أخذنا في جولة بين زراعاته في الصحراء، فرأيت الواقع الذي يحمل التأكيد على نجاح التجربة رغم قسوتها، وعشت مع الأحلام التي تعافر لتتحول إلى واقع، وانبهرت بما إنبهر به الفرنسيون عندما شاهدوا التجربة ولمسوا نجاحًا يفوق نجاح تجاربهم في موطنهم.
دفعني إلى تقديم هذا البلاغ لمن يهمه الأمر سببان.. الأول مطالبة الرئيس السيسي لكل من يمتلك حلًا لمشكلة أو رؤية تحقق حلمًا بألا يتردد في عرضها، بل أنه قالها أمامي في مناسبتين، الأولى في إفطار الأسرة المصرية، والثانية في مؤتمر الشباب الأخير، بل أنه أغرى أصحاب الحلول والرؤى بجملة لن أنساها (تقدموا ونحن خلفكم وسوف ندعمكم).
أما السبب الثاني الذي دفعني لتقديم البلاغ فيخصني، فما بين أطروحات الدكتور محمود عمارة وسياسات الحكومة أعيش في حيرة تخطى عمرها عشر سنوات، ولابد من نهاية لها، فإما أن تستمعوا لهذا الرجل عسى أن تسفيدوا من أفكاره وتجاربه.. أو تسجنوه بتهمة التحريض على السياسات الزراعية التي تنتهجها الحكومة وبذلك تريحونا منه.
basher_hassan@hotmail.com