رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

مجاهد منذ ميلاده


تقول الكاتبة "كارين أرم سترونج" أستاذ مقارنة الأديان بجامعات إنجلترا، إن حياة النبي محمد يمكن تلخيصها في كلمتين: جهاد متواصل.. وحقا من يتأمل منا حياة النبي بعيدا عن كتاب أرم ستورنج (نبي لزماننا)، يجد حياة خاتم الأنبياء مثالا حيا لكفاح بدأ منذ الطفولة..


فهذا الرضيع القرشي يتوفى والده وهو في بطن أمه، فيولد يتيما ضعيفا وسط مجتمع شديد القسوة على الضعيف الوحيد، ولم يكد يبرح رحم الأم الحنون الرءوم حتى انتزع من أحضانها الطيبة ليواجه الحياة في بادية بني سعد، للعادات والتقاليد حكمها القاسي حتى على الرضع الأبرياء، يذهب مع مرضعته الفقيرة المسكينة الكريمة حليمة السعدية، التي ارتضت به رغم فقر أهله، فيملأ الدنيا لها نورا وبركة وخير ونماء بعد سنوات من الجدب والقحط والفقر المدقع!

ثم تأبى الأقدار أن تترك محمدا دون أن تناوشه وتسلمه للدنيا القاسية وحيدا تماما، فهو موكل مستقبلا بالدفاع عن الفقراء والمستضعفين والمهمشين والمساكين والفقراء، لذا حق عليه أن يكون منهم، وأن يسلمه القدر بحكمة بالغة النذر لأهوال اليتم الكامل والضعف المؤلم وسط بيئة مهلكة مجحفة تفتقر للعدل، فكان حقا على من يحمل رسالة العدل والنبوة والإنسانية أن يجرب كل ما يأتي ليمحو آثاره ويجتث أصوله الراسخات..

تموت الأم الحنون الطاهرة الشريفة العفيفة وتترك قطعة منها لم تتجاوز الخمس سنوات.. تموت في طريق عودتها من المدينة (يثرب) لمكة، الطريق نفسه الذي سيقطعه لاحقا مهاجرًا لنشر الحق والضياء وإنقاذ كل المستضعفين في الأرض.. حكمة بالغة وقدر مبصر، حتى وإن كان قاسيا على طفل في عمره!

لم يرث محمد من أبويه سوى الطهر والشرف، لكنه أكمل هذا الميراث الإنساني العظيم بالصدق والأمانة حتى صار جزءًا أصيلا من هويته.. لكن النبلاء لا يكتفون فقط بفضائل قد تكون موجودة لدى البعض حتى وإن كانت بندرة وتندر، لذا أكمل محمد فضائله بالعفاف الكامل، فلم تلقَ به الأهواء النفسية والجسدية لبيت من بيوت صاحبات الرايات الحمر أو العبث الخلاقي والفجور المستباح المعتاد لدى قومه، وهو شاب جميل وسيم شريف نسيب حسيب يحيا وسط مجتمع لا يلوم أحدا على العبث والمجون، ينأ بنفسه الطاهرة عن كل هذا ويجاهد بنفسه ويتودد لخالقه في الخلاء والعزلة..

مؤمن بالفطرة، حيي من خالقه حتى وإن لم يكن قد أرسله بعد.. حري بهذا النبيل العظيم أن يكون نبيا، فمن يجاهد نفسه ويهزم شهواتها، ويجاهد مجتمعه لينجو بنفسه عن الموبقات، جدير بأن يحمل رسالة عظيمة كرسالة الإسلام، التي جعلت من الحياء شعبة أصيلة من الإيمان به.

في دار ابن جدعان
ينضم محمد برغبته إلى حلف الفضول، وهو أحد أحلاف الجاهلية الأربعة التي شهدتها قريش، وقد عقد الحلف في دار عبد الله بن جدعان التيمي القرشي أحد سادات قريش، وذلك بين عدد من عشائر قبيلة قريش في مكة، في شهر ذي القعدة سنة 590 م بعد شهر من انتهاء حرب الفجار بين كنانة وقيس عيلان.

توافق عليه بنو هاشم وبنو تيم وبنو زهرة حيث تعاهدوا فيه على أن: (لا يظلم أحد في مكة إلا ردوا مظلمته)، وقد شهد النبي محمد هذا الحلف قبل بعثته وله من العمر 20 سنة، وقال عنه لاحقا: «لقد شهدت في الجاهلية مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان أحب لي من حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت»!

يا الله..! شاب يبلغ من العمر عشرين عاما فقط ويتعهد بأن يجاهد لنصرة المظلوم، حتى وإن كان هذا الشاب وحيدا دون شقيق شد عضده، يتيما دون أب أو أم يحملان عنه الكل، يتعهد هو بحمل الكل عن كل مظلوم ويلبي دعوة المظلوم حتى وإن أصابه بعض قليل أو كثير من أذى ظالميه..

نبي فارس يحمل أخلاق النبوة والعظمة حتى قبل تكليف السماء، مجاهد قبل الجهر بالدعوة، مثالي حتى وإن كان حق عليه أن يكتفي نفسه، وهو اليتيم الفقير الذي جاء للدنيا وحيدا مسكينا، لكنه أبى إلا أن يبذل نفسه لغيره فداء للحق والخير والعدل والجمال.. وللحديث دوما بقية عن خير البشر في كل زمان ومكان، حتى وإن غادرنا شهر ربيع الأول، لكن أخلاق محمد وسيرته العطرة لا تغادرنا أبدا.
fotuheng@gmail.com

Advertisements
الجريدة الرسمية