الفساد في المستشفيات الجامعية
بدأت مشكلة المستشفيات الجامعية منذ الستينيات عندما صدر القرار الجمهوري ٣٣٠٠ بإنشائها دون أن يحدد واقعيا نظام العمل بها، هل هو انتداب من كلية الطب، أم أنه عمل إضافي بأجر إضافي، أم أنه جزء من عمل عضو هيئة التدريس، وعندها تختلف الأسئلة: ما مقدار هذا الجزء من العمل وتوقيته وطريقة الرقابة عليه أو المحاسبة؟ ومن يتحمل نتائج مخاطره ومسئولياته الأدبية والقانونية والجنائية؟ وكيف يتساوى من يعملون في كلية الطب مع من يعملون في الكليات الأخرى إذا أضيف إليهم عمل جديد ليلا ونهارا وبمخاطر ومسئوليات جسام؟
وللتغلب على هذا صار اتفاق غير معلن بين الأطباء والمستشفيات بالتغاضى عن الأجور مقابل العمل بنظام اقتسام الوقت، وصارت الكليات تعين أعدادا مضاعفة لتغطية هذا النظام حتى وصلت أعداد العاملين بأى كلية طب في مصر إلى عشرات أضعاف الموجود بأى كلية طب في العالم..
وأدى ذلك إلى تبنى قانون تنظيم الجامعات إلى إلغاء كراسي الأستاذية وتحويلها من مكانة علمية رفيعة يتبادلها عدد محدود من العلماء بين الأجيال، كما هو موجود في كل العالم إلى ترقية وظيفية تكتسب باستيفاء إجراءات ورقية في غالبها. ونتيجة تزايد الأعداد تم الانتقاص تدريجيا من حقوق الأساتذة فلا مكاتب ولا سكرتارية ولا رواتب..
واعتمد كل منهم على نفسه في البحث عن مورد للرزق من العمل الخاص. ومع رفع شعارات المجانية وعدم قدرة الموازنة على تغطية كامل تكاليف العلاج والصيانة والتطوير لم يجد المريض من يتحمل نفقة علاجه الحقيقية، فنقصت الأدوية والمستلزمات وتوقفت عقود صيانة الأجهزة، وتباطأت زيادة القدرة الاستيعابية، ولم تعد تتناسب مع زيادة أعداد المرضى حتى افترش المرضى الأرض وتقاسموا الأسرة أحيانا في بعض المستشفيات..
وعجزت موارد المستشفيات عن القيام بالتطوير المطلوب لمكافحة العدوى، والوصول إلى جودة الخدمة الحقيقية. اجتهد الأساتذة في حدود الظروف المذكورة لتقديم أفضل خدمة ممكنة لكن مع الصعوبات الاقتصادية واضطرارهم للعمل في أماكن متعددة لم يعد بإمكانهم تقديم الأفضل.
وفتحت أبواب أخرى للفساد من تعيينات في وظائف مباشرة بعيدا عن إعلانات النيابات إلى إهدار المال العام في المشتريات لقيام كل وحدة بشراء احتياجاتها منفردة، وبتقييم ذاتي إلى تضارب المصالح بين المستشفيات وأماكن تقديم الخدمة الخاصة.
ووصلنا إلى الوضع الحالى.. قوة بشرية هائلة مدربة تدريبا عاليا تصل في بعض الجامعات إلى أضعاف عدد أسرة المرضى ومع الضغط الكبير من أعداد المتدربين أضعاف القدرة الاستيعابية للتدريب تدهورت برامج التدريب وقل الاعتراف بالشهادات والتدريب المصرى، وصار الطبيب المصرى يحتاج إلى إعادة تقييم كل ما درس وبعض الأحيان إعادة كامل التدريب للعمل بالخارج..
وصارت بعض الدول تنتقص من رواتب الأطباء المصريين بالذات مقارنة بأقرانهم من الدول الأخرى عطفا على أوضاعهم في مصر. ومع عدم تفرغ الأساتذة وتحت ضغوط الحياة تدهور مستوى البحث العلمى والذي إذا قورن بالقوة البشرية الموجودة لاحتلت مصر في المرتبة الأخيرة على العالم.
صار الوضع كارثيا، والإصلاح حتميا، والتأخر فيه أكثر من ذلك جريمة في حق الوطن والمواطن والأساتذة، وصدر القانون الجديد في محاولة للإصلاح ليؤكد أن المستشفيات الجامعية هي المستشفيات التابعة للجامعات العامة، وتعتبر جزءا من كلية الطب ولها مجلس إدارة برئاسة عميد الكلية، هو المهيمن على شئونها، وعددها نحو ١١٠ مستشفيات، تقدم ما يقارب نصف الخدمات العلاجية في مصر..
وتمثل ثلث القوة السريرية، كما أنها تقدم ما يقارب ثلاثة أرباع العناية السريرية للحالات المعقدة والمتقدمة، وهى مملوكة للدولة وأموالها أموال عامة تقع تحت حماية المادة ٣٤ من الدستور والتي تنص على: "للملكية العامة حرمة، لا يجوز المساس بها، وحمايتها واجب وفقًا للقانون".
ومن المهم أن نعلم أن في معظم دول العالم لا تملك كليات الطب والمستشفيات الجامعية كما في فرنسا أو بريطانيا، وإنما تتعاقد معها لتدريب الطلاب. وأى مستشفى يكون المريض وعلاجه وشفاؤه هو غايته الأسمى، وعلى هامش ذلك يكون التعليم والتدريب بشرط عدم تأثر البرنامج العلاجى واحترام حقوق المريض كاملة ومنها موافقته الكتابية على حدوث التدريب.
القانون الحالى المنظم لها هو قانون ١٩ لسنة ٢٠١٨ وفى الحقيقة أنه لم يكن هناك قانون سابق وإنما قرار جمهورى بإنشاء المستشفيات الجامعية يحمل رقم ٣٣٠٠ لسنة ٦٥، لكنه لم يضع أي شكل لعلاقة العمل بين أعضاء هيئة التدريس والمستشفيات، ولم يضمن التمويل الكافى لتغطية نفقاتها خاصة الأدوية والمستلزمات للمرضى والصيانة للأجهزة..
وجاء القانون الحالى لضمان هذا التمويل عن طريق منع أي تعاقدات غير عادلة مع التأمين الصحى أو نفقة الدولة، كما أنه يمنح أجرا عادلا لكل عضو هيئة تدريس يمارس مهنة الطب داخل المستشفيات ويحدد حقوقه وواجباته ويحميه ضد مخاطر المسئولية الطبية.. ويعنى ذلك وجود أعضاء هيئة التدريس حتى الأساتذة فيها على مدار الساعة، وفى كل التخصصات مما يشكل نقلة نوعية من النظام القائم على الأطباء المقيمين إلى النظام القائم على الاستشاريين..
مما يعنى زيادة فرص نقل الخبرات وزيادة فرص التدريب والتعليم الطبى. وكما نعلم أن البحث العلمى في مصر ليس في أفضل حال وأحد أسباب ذلك عدم تفرغ الأساتذة والباحثين.
كما أن القانون يخلق مجلسا تنسيقيا لتحديد السياسات العامة للمستشفيات وتحقيق التكامل بينها خاصة في الشراء المجمع للمستهلكات، ومنع إهدار المال العام والفساد. كما يحقق القانون لا مركزية الإدارة بجعل السلطة المهيمنة على المستشفيات لمجلس إدارة برئاسة عميد الكلية مع ممثلين عن المستشفيات والأقسام الإكلينيكية، وتقليل عدد المجلس إلى الحدود التي تسمح بها نظم الإدارة الحديثة لتحقيق الكفاءة الإدارية وسرعة وسهولة اتخاذ القرار مع منح المدير التنفيذى صلاحيات مالية وإدارية تمكنه من تنفيذ قرارات المجلس.
وجاء القانون بصيغة التزام كل أعضاء هيئة التدريس بالعمل مقابل أجر إضافي والقانون لم يحوى صيغة لتحديد هذا الإلتزام، ولم تصدر حتى الآن اللائحة التنفيذية، إما باختيار نظام لائحى موحد ملزم للجميع أو باختيار نظام تعاقدى فردى يتيح الحرية والمرونة لإيجاد درجات مختلفة من الإلتزام والتوازن بين الحقوق والواجبات تتناسب مع مختلف احتياجات ورغبات الأساتذة. وستظهر الأيام القادمة هل ما زال الإصلاح ممكنا في مصر أم أن التعود على النظام الفاسد جعل أن ذلك بعيدا.