محنة الحديث النبوي (1)
مَرَّ الحديث النبويُّ الشريف، منذ عهد النبي، حتى الآن، بالعديد من الأزمات، التي أثرت على صلاحية وسلامة ودقة الأقوال المنسوبة لسيد البشر، صلى الله عليه وآله وسلم، الموصوفة بأنها "أحاديث نبوية".
هذا الوصف، يحتاج منا إلى مراجعة شديدة، وموضوعية لكتب الصحاح، فضلًا عن كتب التراث، ومنها التفاسير، وكتب الرقائق، والفضائل، وقصص التاريخ الإسلامي، وما إليها، فليس كل ما قيل، منسوبًا إلى مَنْ لا ينطق عن الهوى سليمًا، بل هناك أقوال الصحابة التي تحولت مع مرور السنين إلى أحاديث عن الرسول "صلى الله عليه وآله وسلم"، وهناك دسائس اليهود والفرس، والمنافقين، وأكاذيب الأفاكين، والكارهين للإسلام، وثَمَّ تُرهات الجاهلين، ومن أساءوا من حيث قصدوا الإحسان.. إلخ، وغير هؤلاء وأولئك كثيرين.
ومن أهم مَنْ كتبوا في هذا الملف الشائك؛ محمود أبو رية، رحمه الله، وهو من أعلام التجديد في التراث الإسلامي، وإصلاح هذا التراث، تلك المدرسة التي قادها في العصر الحديث الإمام محمد عبده، رحمه الله.. عاش "أبو رية" 58 عامًا، وُلِد بمصر عام 1898 م، 1307 هـ.. وتوفي عام 1970، واجه حربًا شعواء، وتعرض لحملات جائرة؛ بسبب كتبه التي حاول من خلالها تنقية بعض كتب التراث.
قال الدكتور طه حسين، عن كتابه "أضواء على السنة المحمدية": هذا كتاب بذل فيه مؤلفه من الجهد ما لا يبذله إلا الأقلون، الذين يقرأون هذا الكتاب قراءة المتدبر المستأني سيلاحظون مقدار هذا الجهد العنيف الذي مَكَّن المؤلف من أن يصبر نفسه السنين الطوال على قراءة طائفة ضخمة من الكتب التي لا يكاد الباحثون يطيلون النظر فيها لكثرة ما يتعرضون له من كثرة الأسانيد وتكرارها وتعدد الروايات واضطرابها، وإعادة الخبر الواحد مرات كثيرة في مواطن مختلفة.
وموضوع الكتاب، إذن، خطيرٌ قيِّمٌ، وهو نقد ما وصل إلينا من الحديث الذي يحمل عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وتمييز الصحيح من غيره؛ ليطمئن المسلمون إلى ما يروى لهم عن رسول الله.
وقد فطن المحدثون القدماء لهذا كله، واجتهدوا ما استطاعوا في التماس الصحيح من الحديث وتنقيته من كذب الكذابين وتكلف المتكلفين، وكانت طريقتهم في هذا الاجتهاد إنما هي الدرس لحياة الرجال الذين نقلوا الحديث جيلا بعد جيل، حتى تم تدوينه، وأنا بعد ذلك أجدد اعترافي للمؤلف بجهده الخصب في تأليف هذا الكتاب وإخلاصه الصادق للعلم والحق في بحثه عن الحديث".
هذا رأي طه حسين في الكتاب وصاحبه، والحق أنه لولا عميد الأدب العربي ما رأى هذا الكتاب النور؛ فبعد أن وقف الأزهر بالمرصاد ضد صدور الكتاب، أعلن طه حسين رأيه، فتجرأت وزارة الثقافة على طبع الكتاب.
وأقول إن جسمي اقشعر وأنا أطالع الكتاب؛ وأدرك كيف كان الأتقياء من الصحابة الأوائل يتعاملون مع كلام النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بالاحترام والتقدير والحب الواجبة.. مقابل البعض من المتهاونين، والمنافقين، والأفاكين ممن عاصروا هؤلاء.. وكيف تصرفوا إزاء كلام الرسول، بكل التهور، والاجتراء، والنفاق، والكذب؛ عامدين متعمدين، أو جاهلين بعظم الخطأ في حق الحديث الشريف، والكذب على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مع علمهم التام أنهم سيتبوأون مقاعدهم من النار.
الكتاب اسمه "أضواء على السنة النبوية"، والمؤلف هو "محمود أبو رية".
كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مبينًا ومفسرًا للقرآن بفعله وقوله، لكن أقواله لم تحفظ بالكتابة كما حفظ القرآن الكريم، ولم تكتب أحاديث الرسول في عهده، ولم يكن لها كتاب يقيدونها عند سماعها منه، وتلفظه بها.. وقد جاءت أحاديث صحيحة وآثار ثابتة تنهي كلها عن كتابة أحاديثه، صلى الله عليه وآله وسلم.. روى أحمد ومسلم والدارمي، والترمذي والنسائي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله: "لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه".. وأخرج الدارمي عن عن أبي سعيد كذلك: أنهم استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم، في أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم. ورواية الترمذي عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم، في الكتابة فلم يأذن لنا".
(ومن مراسيل ابن أبي مليكة) أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافًا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه".
وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في "المدخل" عن عروة، أن عمر أراد أن يكتب السنن، فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك، ورواية البيهقي (فاستشار)، فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا، ورواية البيهقي "لا ألبس كتاب الله بشيء أبدًا".
وسنواصل بإذن الله، شرح تفاصيل المحنة التي عانى منها الحديث النبوي في مقالات قادمة.