رئيس التحرير
عصام كامل

هزت عرش ديجول.. حكاية ثورة الطلبة عام 1968 في فرنسا

فيتو

تعيش فرنسا هذه الأيام أحداثا قريبة الشبه بـ«انتفاضة الطلبة» عام 1968، والتي غيرت نتائجها وجه باريس السياسي، ولم تكن مجرد مرحلة تاريخية مرت مرور الكرام، علا فيها صوت الشباب ضد القيود التي تكبله فحطمها.


1- تغيير وجه البلد

 مثلت هذه الانتفاضة محطة مهمة غيرت وجه البلد تماما ولا تزال آثارها وتداعياتها ممتدة حتى الآن، وعندما تولى الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، قال في بداية عهده: إن من أهدافه القضاء على ميراث حركة مايو 1968، لأنه يعتبر تلك الحركة شكلت تهديدا للسلطة شوه المعايير السلوكية لدى المواطنين.

2- تراكمات محلية ودولية

أحداث مايو 1968 اندلعت نتيجة تراكمات فرضتها ظروف محلية ودولية مهمة على المستويين السياسي والاقتصادي منذ بداية الستينيات.

كانت حالة من الحنق المجتمعى تسود البلاد بسبب تكبيل الحريات من قبل نظام الجنرال «شارل ديجول»، الذي مارس التضييق على النخبة من المفكرين وأهل الأدب والسياسة بذريعة الأمن وحماية الدولة، وكان الشرخ كبيرا في النظرة إلى التجنيد، ووضع المستعمرات الفرنسية في الخارج خاصة بالجزائر، وما شهدته من مجازر قبل منحها استقلالها عام 1962 وعودة مليوني فرنسي كانوا يعيشون فيها بعدما كانت فرنسا قد عاشت حتى هزيمة «ديان بيان فو» في فيتنام 1954.

3- فشل المحاولة


بالرغم من ذلك، لم تتمكن الدولة ولا أجهزتها من تركيع المفكرين أو الصحافة، رغم الضغوط وعمليات المنع المتكررة للكثير من المؤلفات والمسرحيات.

وحرص المفكرون على إصدار بيانات ونداءات أشهرها «بيان الـ121» المناهض للمشاركة في الحروب، والذي يحرض على عصيان النظام وعدم الذهاب إلى التجنيد، وقد صاغ هذا البيان «موريس بلانشو» ووقعه رموز بارزة كان بينهم «جان بول سارتر».

الحزب الشيوعي الفرنسي، وقتها، كان تحت سيطرة «الستالينيين» في زمن كانت الشيوعية تشهد فيه انقسامات حادة.

ومن أبرز العوامل المؤثرة فيها كان الخلاف «الصيني– السوفييتي» المستمر وخلاف الستالينيين والتروتسكيين، وقد دفعت به هذه العوامل إلى مهادنة السلطة وتحولت الأحزاب إلى مطية، هذا الواقع كانت المؤسسات النقابية والاتحادات التابعة للشيوعيين تسير على النهج نفسه.

4- المستوى الاقتصادي

اقتصاديا شكل عام 1968 نقطة تحول في مسار اقتصاد باريس، الذي انتقل من مرحلة النمو إلى مرحلة ركود ألقت بظلالها على العمال والقدرة الشرائية والبطالة بطريقة تؤكد إعادة التاريخ لنفسه.

المفاجأة وقتها كانت أن التمرد لم ينطلق من صفوف العمال بل قاده الطلاب، وبدأ على أساس المطالبة بالحريات وخاصة شعاري «منع الممنوع» و«إن لم تعطني حريتي فسأتولى الأمر بنفسي»! و«اركضوا يا أصدقائي العالم القديم ورائي» ثم رفع الشعارات الاقتصادية لاحقا.

5- طالب ألماني

المثير في أحداث مايو 1968، أنه بالرغم من إحكام ديجول قبضته على الدولة، كان اعتقال طالب ألماني أمه فرنسية يدعى «دانييل كون – بنديت» وصدر قرار بطرده بسبب تأسيسه حركة أسماها «حركة 22 مارس» ردا على إقدام السلطات على اعتقال مجموعة من الطلاب في وقت سابق لتنظيمهم تظاهرة ضد حرب فيتنام وتشكيلهم لجنة أسموها «لجنة مناصرة فيتنام».

6- احتلال الجامعات


وطالب كون وزملاؤه آنذاك بإطلاق سراح زملائهم، ولم تستجب السلطة، الأمر الذي دفعهم لاحتلال مبنى جامعة «نانتير» في بداية مايو 1968.

أمام هذا الواقع أعلنت إدارة الجامعة عن إغلاق أبوابها فقرر الطلاب المحتجون نقل تحركاتهم إلى مبنى جامعة «السوربون» العريقة في اليوم التالي.

وهنا بدأت الصدامات المباشرة بين الطلاب وقوات الشرطة التي تدخلت بطريقة عنيفة، وألقت القبض على قادة التحرك الذين أخضعوا لتحقيق مع مجلس التأديب في الجامعة انتهى بصدور قرارات بفصلهم.

وأدى طردهم من الجامعة إلى تواصل المظاهرات وتعزيز المشاركة فيها والتعاطف معها، وفي 10 مايو واجهت الشرطة تظاهرة ضمت آلاف الطلاب بعنف شديد، خصوصا أن مطالبهم تمثلت بالتمسك بالإفراج عن أعضاء مناصري فيتنام وإعادة الطلبة المفصولين.

7- القمع المفرط


نتيجة قمع الصحافة والإعلام، انضم للطلاب عدد كبير من المفكرين والمثقفين ووصلت العدوى لصفوف العمال والنقابات، وخرجت في 13 مايو مظاهرة ضمت مئات الآلاف رغم الإفراج عن الطلبة إذ ظهرت مطالبات العمال بتحسين الأجور وتحسين أوضاعهم الاقتصادية وظروف عملهم.

وفي 14 مايو أعلن الإضراب العام في البلاد فشارك فيه 10 ملايين مواطن.

واستمر نحو شهر لم ينته إلا بموافقة الحكومة على زيادة الحد الأدنى للأجور 37% والموافقة على تمثيل العمال في نقابات المصانع.

8- تداعيات أوروبية

انتفاضة باريس أحدثت آثارا مدوية في دول أوروبا الغربية، خصوصا أنه لم يكن معروفا ما ستنتهي إليه الأوضاع، فبعد انضمام العمال إلى المظاهرات اعتقد «اليمين» أن «اليسار» يتجه إلى الاستيلاء على السلطة.

وكان من المستغرب في بداية التحرك الهجوم العنيف لوسائل إعلام الحزب الشيوعي، على الطلاب الذين وصفوا بـ«الهمجيين» والفوضويين والرعاع.

والتأكيد على تبرؤ الحزب منهم رغم انسجام شعاراتهم مع شعارات اليسار.

ولم تهدأ حدة الهجوم إلا بعد أن تدخل قادة ومفكرون كبار في اليسار، ليؤكدوا ضرورة التعاطف مع الطلاب ومطالبهم المحقة، وتعزيز الحريات والخروج من الكبت والمحظورات التي فرضت على الشعب الفرنسي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

بطبيعة الحال لم يكن الشيوعيون يسعون أو يخططون للانقلاب، ولا الطلاب كما أكد «كون– بنديت» في لقاءاته الإعلامية اللاحقة يرغبون في الاستيلاء على السلطة.

9- رفض رئيس الوزراء

وعندما استولى الطلاب على جامعة السوربون طلب الرئيس ديجول، من رئيس وزرائه جورج بومبيدو «سحق التحرك وتنظيف الجامعة»، إلا أن الأخير رفض، وكان محقا في تصرفه، لأنه كان يعلم أن كل تصعيد لابد أن يقابل بتصعيد أكبر.

الشرطة من جهتها عمدت إلى التنسيق مع قادة المظاهرات في مختلف المناطق، وفتحت معهم خطوطا تفاوضية لمنع سفك الدماء، وقد نجحت في ذلك.


وكانت نقابة رجال الأمن في بداية المواجهات قد حذرت الحكومة والرئيس، من أن المواجهة مع الطلاب تلقى «مسئولية أخلاقية» كبيرة على رجال الأمن، وقد أصاب هذا الموقف الجنرال الحاكم بحرج كبير، دفعه إلى مغادرة البلاد إلى قاعدة فرنسية تقع بألمانيا الغربية –وقتها- ولم يعد حتى تأكد من أن المحتجين «ليسوا «ثوارا» ولا يهدفون إلى الاستيلاء على السلطة.

انتخابات مبكرة


أمام هذه التطورات لم يجد «ديجول» مخرجا للأزمة، سوى الدعوة إلى انتخابات مبكرة واستقالت حكومته في 21 يونيو من نفس العام، ورغم فوز حزبه مجددا، إلا أن الأحزاب لم تتبن الانتفاضة، والطلاب لم يسعوا للانقلاب، فقد مهدت الأحداث لتحالف «الاشتراكيين والشيوعيين» وتدعيم ركائز اليسار الذي سمح بإيصال الرئيس الأسبق «فرانسوا ميتران» إلى الرئاسة في 1981 واستمراره حتى 1995.

بعد هذه الخطوات رفعت القيود عن كل شيء"، الصحافة والمسرح والأدب والكتب، وأصبح من الممكن التعبير بحرية وانتقاد النظام وممارساته الاستعمارية وكشف وسائل تعذيبه والتأكيد على حرية أهالي المستعمرات في الاستقلال.

وقد تم تأليف العديد من الكتب، ووضعت دراسات حول انتفاضة 1968 وما إذا كانت ثورة أم لا، وعن آثارها وانعكاساتها على المجتمع.

الجريدة الرسمية