رئيس التحرير
عصام كامل

أقدم سجين مصري يروي ذكريات 45 عاما في «عتمة الزنازين».. حوار

فيتو

بعد 46 عاما قضاها خلف أسوار السجون، عاد المواطن «كمال ثابت عبد المجيد» أقدم سجين في مصر إلى مسقط رأسه بمدينة أخميم، محملا بذكريات ليال طويلة عاشها في عتمة الزنازين، بعد تورطه في قتل جده وعمه.


6 رؤساء تعاقبوا على حكم مصر، وكمال يقبع في السجن، تنفيذا لحكم قضائي صدر ضده في بداية سبعينيات القرن الماضي، مياه كثيرة جرت تحت نهر الأحداث في مصر، كان السجين شاهدا على بعض أحداثها في محبسه، أهمها ليلة مقتل الرئيس السادات، واقتحام السجون في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير وغيرها من الأحداث التي غيرت وجه مصر.

أُتيحت للرجل السبعيني فرصة الهروب من أحد السجون، لكن لعلاقته المميزة بمأمور السجن رفض الخروج، وحين أتم مدته القانونية وخرج للحياة لم يجد سوى بيت شقيقته للإقامة به، بعد أن هدم بيت أبيه وتغيرت معالم الحياة في قريته.

تعود خيوط قصة أقدم سجين إلى عام 1972، وقتها كان الشاب كمال، منقوعا في ثقافة أهل بلدته، متشربًا العادات والتقاليد الموروثة، وكعادة أهل الصعيد يتعلم الأطفال حمل السلاح وإن ترك الثأر خزي وعار ولعنة تصيب صاحبها مدى الحياة.

مشاجرة وقعت داخل بلدته قتل فيها والده، حاول الشاب الصغير بصحبة عمه، الأخذ بثأر والده فشل فى المرة الأولى، وتم ايداعه وعمه فى السجن لفترة تخطت الـ 70 يوما بتهمة الشروع فى قتل، أخلى سبيلهما على ذمة القضية وبعد الخروج من السجن قُتل عمه، وقتل هو قاتل عمه فألقي به فى السجن مرة أخرى وحكم عليه بالمؤبد فى جريمة القتل وبـ 15 عاما فى الشروع فى القتل، داخل محبسه بطرة التقى نجل قاتل أبيه فقتله فحصل على مؤبد آخر. 

داخل السجن لم يكن التغيير ليمس قلب الشاب الصغير، فكان الثأر ما زال يغلي في صدره، جمعته الصدفة بأحد أفراد العائلة المتخاصمة معهم، ولما كان قلبه اعتاد على القتل فقتل منهم واحدا، ليحكم عليه بالسجن المؤبد مرة أخرى.

"فيتو" تواصلت مع أقدم سجين في مصر، وأجرت معه حوارًا عبر الهاتف عن تمنياته ومخاوفه وتطلعاته لمستقبله خارج الأسوار: 

بمزيد من الحسرة يحكي الرجل السبعيني عن تجربة السجن: "الحياة في السجن ذل وانكسار، عمر كامل ضاع مني ومعرفتش أوله من آخره"، دخلت السجن وأنا لسه صغير، بس كان لازم آخد بالتار، إحنا اتولدنا لقينا نفسنا كده، ماكنتش أنا اللي هيغير عادات وتقاليد البلد كلها".

الندم والحزن على ما فاته من حياة يظهر في صوته الذي ما زال يحتفظ بخشونة رجال الصعيد، هل لو عاد به الزمن مرة أخرى سيكرر فعلته، يقول كمال: "أيوة، دي عاداتنا وتقاليدنا، ربنا خلقنا كده، يا تاخد تارك يا إما تعيش زي الست، صحيح ندمان على سنين عمري اللي ضاعت، بس لو عاد بيا الزمن هعمل نفس اللي عملته، الصعيد عندنا قاسي، يا تبقى راجل وتاخد تارك، يا تكون زي أي واحدة ست وتلبس طرحة واللي قتلوا أهلك جايين رايحين قدامك".

رغم السنوات التي ضاعت من عمر كمال فإنه يدرك ما يحدث حوله في الخارج، يعرف الرؤساء وثورات الربيع العربي، يتذكر ليلة اغتيال الرئيس محمد أنور السادات قائلا: "كنا يومها داخل مغسلة السجن، وكان الشيخ أحمد المحلاوي واقف معانا بيغسل هدومه، ولقينا حركة غريبة في السجن وعرفنا إن السادات اتقتل، لقينا الشيخ المحلاوي اتحزم وقعد يرقص في السجن قدام المساجين والضباط".

الداعية أحمد المحلاوي واحد من الدعاة المعارضين لاتفاقية كامب ديفيد التي عقدها الرئيس الراحل محمد أنور السادات، التي اعتقل فيما بعد بسبب تصريحاته التي هاجم فيها الرئيس الراحل وعائلته.

يحمل أقدم سجين في جعبته ذكريات ما يقرب من نصف قرن خلف الأسوار، التقى جميع أطياف الشعب المصري، طاف على سجون مصر من شرقها إلى غربها، يقول كامل: "كنت أكون صداقات كثيرة خلف الأسوار، لم تكن علاقاتي فقط بالسجناء لكن بالضباط أيضا كانت جيدة، فكان يتم معاملتي بكل ود واحترام".

يتذكر عندما حانت له فرصة الهرب قبل ثورة 25 يناير وما حدث فيها من اقتحام للسجون قائلا: "قبل الثورة ما تحصل تقريبا في سنة 2000، كان بيعملوا إنشاءات داخل السجن وشوفت بعيني جزءا من السور فيه فتحة تسمح أني أعدي منها وأهرب، لكن كان وقتها تربطني علاقة طيبة بمأمور السجن وقلت لو هربت هيتأذي من ورايا ورحت بلغته عشان يخلي باله".

أن تقضي 45 عاما داخل السجن، هذا يعني أنك لم تمس امرأة قط، يحلم كمال وهو ما زال قادرا على الحلم أن يعيش حياته مرة أخرى، يقول كمال: "أنا عايز أتجوز امرأة عشرينية وأخلف منها وألاقي شقة تلمنا والحمد لله على كده، أنا خرجت لقيت بيتنا اتهد وماليش مكان أقعد فيه غير بيت أختي، ولو شالتني النهاردة مش هتشيلني بكرة، أنا ليا طلب عند الرئيس عبد الفتاح السيسي، أنا نفسي أقابلك".

خرج الرجل وهو يحمل في عقله وقلبه هم الحياة خارج الأسوار، العالم لم يعد العالم الذي يعرفه، يقابل أناسًا لم يرهم في حياته من قبل، يقولون إنهم أقاربه وأولاد عمومته.

لم تحمل مطالب كمال سوى حياة كريمة والبعد عن السجون وأقسام الشرطة: "أنا قضيت 45 سنة وعليَّا 5 سنين مراقبة، ده حرام والله يا ناس، أنا باتمنى من الدولة المصرية تعفينا من المراقبة أنا عايز أعيش حياتي وأشوف مستقبلي".
الجريدة الرسمية