رئيس التحرير
عصام كامل

تسونامي «السترات الصفراء» يهدد بتفكك الاتحاد الأوروبي

مظاهرات فرنسا,
مظاهرات فرنسا,

تعيش فرنسا على واقع أزمة مريرة تهدد استقرار عاصمة النور (باريس)، طرفاها النظام بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، والطبقات المتوسطة والفقيرة التي تعانى التهميش وتشعر بغصة في الحلق من سلسلة قرارات حكومية، جاءت على عكس المأمول من الرئيس، وخيبت أمل الشعب في عولمة تبناها خلال حملته الانتخابية، وعد فيها المواطنين بالابتعاد عن فكر اليسار واليمين، واضعا الرأسمالية وسيلة لغاية أكبر متمثلة في النهضة الاقتصادية.


تذمر شعبى
ضغوط القرارات التي شرع فيها ماكرون، دفعت في نهاية المطاف هذه الطبقات للخروج إلى شوارع باريس، غير مبالية بتراجع الأليزيه عن قرار زيادة ضريبة الوقود –القشة التي قصمت ظهر البعير-، ودفعت الطرفين (النظام والشعب) إلى الصدام ليصبح العنف سيد الموقف المهيمن على المشهد برمته، بدون ظهور ضوء في نهاية النفق الذي دخله الجميع بـ "سترات" (صفراء) للمحتجين (سوداء) للأمن، ودخلت باريس السبت الماضى، جولة جديدة من الاحتجاجات ارتفعت بها سقف المطالب، وتزايدت معها حدة الاشتباكات، واتسعت رقعة الأزمة التي باتت تحيط الدولة من كل اتجاه.

تراكم الأخطاء
بعد نهاية الأسبوع الماضي، الذي شهد أسوأ اضطرابات شعبية منذ عقود، ما زالت السلطات الفرنسية تكافح لاحتواء مطالب حركة "السترات الصفراء"، ولكن من الواضح أن تراكم ارتكاب الأخطاء، بدءا من التصريحات الصماء إلى العنف الذي تمارسه الشرطة، والذي يدل على عدم إدراكها لخطورة السخط العام نتيجة سلسلة القرارات التراكمية التي اعتقد الرئيس صمت الشعب عنها بمثابة "صك موقع على بياض" ليمضى في طريقه المنحاز للكبار بدون النظر خلفه ليري أو يستشعر بركان الفقراء.

نار الوقود
وظهرت أولى علامات الاضطرابات في أواخر أكتوبر، بعد وقت قصير من إعلان فرض ضريبة جديدة على الوقود كجزء من خطة الرئيس ماكرون الكبيرة للتصدي لتغير المناخ، ولكن بالنسبة للفرنسيين الذين يعيشون في المناطق الريفية، والذين يعتمدون على سياراتهم للعيش والعمل، كانت هذه الضريبة هي القشة الأخيرة في سلسلة من السياسات المالية التي ينظرون إليها على أنها غير عادلة وتمثل تفضيلا للطبقات العليا.

وردا على ذلك وضع المواطنون حواجز على الطرق ودوارات الطرق في جميع أنحاء البلاد، وارتدوا السترات الصفراء كرمز للزي الذي يجب على جميع السائقين الفرنسيين امتلاكه في سياراتهم، وتمكنوا بطريقة سياسية من إبطاء حركة المرور وإحداث تأثير اقتصادي فوري.

وحرّكت الحركة 282 ألف شخص على مستوى البلاد في 17 نوفمبر، وهو اليوم الأول من الاحتجاجات، وبلغت 166 ألف شخص بعد أسبوع من ذلك.

سقف المطالب
لا ترتبط هذه الاحتجاجات بارتفاع أسعار الوقود فقط كما يعتقد البعض أو يري، ولكنها تعبير عن الاعتراض على المشكلات المالية بشكل عام، بما فيها قوانين العمل الجديدة، وإصلاحات نظام السكك الحديدية، مما دفع المحتجين للمطالبة مباشرة برحيل ماكرون، في سيناريو دراماتيكى يشبه ما شهدته المنطقة خلال ثورات الربيع العربى.

واعتبر المحتجون إعلان النظام، تعليق رفع أسعار الضرائب المؤقت هو تنازل ضئيل للغاية ومتأخر، وهو ما دفعهم لرفض التفاوض مع المسئولين.

على ما يبدو أيضا، أن المحتجين، من جميع الأعمار والمهن والفصائل السياسية، لا يريدون التراجع بعدما تقدموا إلى الأمام في طريق الصدام، وهو ما تسبب في ازدياد العنف تدريجيًا على كلا الجانبين.

مواجهات وحشية
المواجهات في الشارع باتت أكثر وحشية، والشرطة أكثر قمعا، واشتدت حدة الاستياء من استجابة الحكومة إلى أبعد من ذلك، بعد إلقاء القبض على 153 من الطلاب في مدرسة ثانوية في مانتيسلاجولي، بالقرب من باريس.

حلول عاقلة
لا يبدو في الأفق حتى الآن، أن فرنسا الرسمية تملك حلا عاقلا تتبعه في ظل تفاقم الأزمة من أجل احتوائها وتهدئة الأوضاع، بعدما لجأت عاصمة الحرية، لإجراءات "استثنائية"، بنشر 89 ألف شرطى، في جميع أنحاء البلاد، مع 8000 ضابط وعشرات من العربات المدرعة في باريس وحدها، بطريقة تعكس تحولا مجتمعيا هائلا في العقلية الحاكمة التي انحازت لحلول أمنية، وتخلت عن إرث الأجداد البراجماتى في السيطرة على الأزمات.

وقررت الحكومة إغلاق العديد من المتاجر والمطاعم والمتاحف والمعالم الأثرية بما في ذلك متحف اللوفر وبرج إيفل، وتم إلغاء أربع مباريات لكرة القدم، وأكدت قوات الأمن تلقيها تعليمات بإطلاق النار على المتظاهرين في حال تصاعد الأمور.

وبحسب خبراء تحدثوا عن حلول لشبكة "إن بى سي نيوز" الأمريكية، إذ كانت الدولة ترغب في نزع فتيل الوضع المرشح للانفجار الكبير، فعليها فعل أمرين، أولهما، التفاعل مع الفصائل السلمية بتبجيل وعدم الميل إلى نظرية المؤامرة وتقديم بعض الحلول، الأمر الثانى، محاولة السيطرة أو التحكم في الاحتجاجات بدون اللجوء إلى الحلول الأمنية.

وخرج أمس الرئيس إيمانويل ماكرون، في خطاب متلفز وجه خلاله كلمة إلى الشعب، معلنا عن سلسلة إجراءات ترمي إلى تعزيز القدرة الشرائية للفرنسيين في محاولة منه لحل الأزمة، التي نتجت من احتجاجات «السترات الصفراء». 

ووعد ماكرون بسلسلة إجراءات تصب في خانة تعزيز القدرة الشرائية وتقضي برفع الحد الأدنى للأجور 100 يورو اعتبارا من 2019، من دون أن يتحمل أرباب العمل أي كلفة إضافية، وإلغاء الضرائب على ساعات العمل الإضافية اعتبارا من 2019 وإلغاء الزيادات الضريبية على معاشات التقاعد لمن يتقاضون أقل من ألفي يورو شهريا.

اعتبرت حركة «السترات الصفراء»، الثلاثاء، في أول رد لها على خطاب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الإجراءات التي أقرها الرئيس بأنها «غير مقنعة»، وأكدت الحركة، أنها ستواصل احتجاجاتها في العاصمة، باريس، ومدن أخرى حتى تلبية مطالبها، التي تضم قائمة بـ40 مطلبا تم إرسالها في وقت سابق إلى وسائل الإعلام المحلية، الأمر الذي يوحى بمزيد من التصعيد في باريس، ويهدد بانتقال الأزمة إلى دول الجوار.

تسونامى أوروبي
صحيح أن وسائل الإعلام ركزت على "سترات فرنسا الصفراء"، ونقلت وسط الموجة العاتية أنباء متناثرة حول وصول الإعصار الشعبى إلى بلجيكا وهولندا وبريطانيا، بطريق تؤشر على تعرض القارة العجوز لـ"تسونامى" غضب شعبى، يمثل نهاية لـ"عشرية ضائعة اقتصاديا"، تخلت فيها الحكومات عن الانحياز للشعوب، وهرولت نحو رأسمالية متوحشة تضع الجميع تحت أقدام هيمنة رجال السياسة والاقتصاد.

خروج بريطانيا

هذه الهيمنة مثلت سرطانا في جسد الاتحاد الأوروبي المتماسك منذ عقود، وجاءت خطوة خروج بريطانيا من تجمع "البريكست" بمثابة بداية لانفراط العقد، عكس ذلك مطالبة الاحتجاجات المتناثرة بالخروج من الاتحاد على غرار السيناريو البريطانى، لتجنب الالتزامات المالية، واكتفاء كل دولة بمواردها لمواطنيها في ظل تفاقم أزمات الهجرة غير الشرعية ومحاولة الاتحاد معالجة الأزمة المالية التي ضربت العالم في 2008، وسببت شروخا اقتصادية هائلة لبعض الدول في تركيبتها الداخلية، لتظهر في الأفق القريب ملامح انهيار لـ"المعسكر الغربى" تؤسس لنظام دولى جديد تقوده الولايات المتحدة الأمريكية منفردة تماما، وتعكس تغريدات الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، عن أزمات السترات الصفراء، واعتبارها انتصارا لقراره القاضى بالانسحاب من اتفاقية المناخ لما خلفته من اعتماد على وسائل طاقة نظيفة أدت إلى ارتفاع أسعار الوقود في العالم، وتلميحه برفض الشعوب الغربية للأموال التي تدفع لدول العالم الثالث التي تدار بطريقة مشكوك فيها كما وصفها، وأيضا ضرورة استلهام تجربته في مكافحة الهجرة غير الشرعية، وهى الظاهرة التي فجرت الخلافات بين عواصم القارة، كإشارة لانتصار "الشعوبية" وهزيمة "العولمة".

وحال تمددت ظاهرة "السترات الصفراء" من فرنسا وتحولت إلى عاصفة تجتاح أوروبا، فمن المتوقع أن تشهد أوروبا تحولا جذريا رابعا منذ الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، كعادة باريس في إطلاق إشارة التغيير في دول الجوار البيضاء.

"نقلا عن العدد الورقى...."
الجريدة الرسمية