فرنسا والسبت الأسود
كان على الرئيس الفرنسي تجنب مواجهة الأسد بدلا من استفزازه ثم العودة للوراء لأن التراجع بعد ذلك لن يحميه؛ فالفقراء والعاطلون قوة كبيرة كامنة لا تتحرك بسهولة لكن لا يمكن تقدير خطواتها عند الغضب ولا تُجدي معها تدابير فليس لديها ما تخشى عليه، أما التوزيع العادل للثروة والتوازن بين الطبقات الاجتماعية فهما أعظم قوات على وجه الأرض لمكافحة الشغب ومنع التمرد والعصيان والضامن الأكبر لاستقرار الدول.
عجزت الشرطة الفرنسية خلال الأسابيع الماضية عن السيطرة على الأوضاع بالعاصمة باريس وبعض مناطق الاحتجاج لأصحاب السترات الصفراء فلم تمنعهم القنابل المسيلة للدموع والهراوات من التظاهر رفضًا لقرار حكومي صادر برفع الضرائب على الوقود وتدني القوة الشرائية وسوء أحوالهم المعيشية ورفضًا لإصلاحات اقتصادية يروها تنحاز للأغنياء على حساب الفقراء ورغم عفوية هذه المظاهرات ودون قيادة منظمة موحدة للتحدث عنها فقد انضم لها الكثيرون في الفترة الأخيرة مثل العاملين بالنقل البري والمزارعين والطلاب بمراحل الثانوية والجامعية وغيرهم ممن جمعتهم قسوة هذه الإصلاحات الاقتصادية التي لم تراعِ ضعف دخولهم.
ورغم تراجع الحكومة الفرنسية وتجميد قرار رفع الضرائب على الوقود ثم إلغائه نهائيا إلا أن المُحتجين لم يتوقفوا عن دعوات التظاهر والتهديد بمزيد من التصعيد وقد ارتفع سقف مطالبهم بضرورة رحيل الرئيس ماكرون الذي علقوا عليه آمالهم يوما من الأيام واعتبروه اختيار الشباب والموجة الجديدة من التوجه للمستقبل لكنهم اكتشفوا أنه لا يمثلهم! كما يطالبون بحل مجلس النواب وخفض الضرائب ورفع أجورهم تحقيقًا لحياة كريمة يتمنونها.
ومع توقعات كبيرة في آخر كل أسبوع وتحديدا يوم السبت بخروج الأمور عن السيطرة قام الأمن الفرنسي باستعدادات كبيرة تحسبا لسبت (أسود) جديد، وتم نشر 89 ألف شرطي وعشرات المراكب المدرعة واتخذت تدابير عديدة مثل طلبها إغلاق المحال التجارية بمحيط شارع الشانزليزيه الشهير، الذي يتوجه إليه المتظاهرون أسبوعيًا، كذلك سيتم غلق برج إيفل وعدد من المناطق السياحية فهل تكفي هذه الإجراءات لمواجهة الأعداد الكبيرة جدا المتوقعة من أصحاب السترات الصفراء والمتضامنين معهم؟ كثيرون لا يثقون في ذلك فاختبار القوة خلال الفترة الماضية كان في صالح المحتجين أكثر من حكومتهم.
أعتقد أن مؤسسات الدولة الفرنسية قد أساءت التقدير للأزمة وقد تأثرت شعبية الرئيس الذي كان خصوصا بعد أول تصريحاته أنه لن يُغير سياساته عند بداية هذه التظاهرات ولم يكن يعلم مدى إمكانية اتساعها بهذا الشكل.. تنازلت الحكومة الفرنسية وانحنى الجميع حتى تهدأ العاصفة ولم يتنازل المتظاهرون بل ازدادت ثقتهم بأنفسهم بهذا التراجع فالقرارات التي استنفرت قواهم لم يتم دراستها مسبقًا والقرارات التي تلتها لم تكفِ وقد بدت وكأنها تُشبه وصول الطبيب بعد وفاة المريض.