رئيس التحرير
عصام كامل

صاحب ملف مصر في «اليونسكو»: زملائي اتهموني بالجنون.. ولفيت الموالد لكتابة سيرة الأراجوز

فيتو

قبل أيام قليلة كان الدكتور نبيل بهجت أستاذ المسرح بجامعة حلوان، يتابع عن كثب من خلال شاشة التليفزيون، وقائع جلسات منظمة "اليونسكو" المنقعدة في دولة "مورشيوس" بشرق أفريقيا، وإذا باللجنة تعلن تسجيل "ملف الأراجوز" الذي عكف بهجت 18 عاما على إنتاجه، في قائمة الصون العاجل للتراث غير المادي.


قرار اليونسكو اعتراف رسمي بأن فن الأراجوز أحد الفنون الشعبية المصرية الضاربة بعمق في جذور التاريخ، ويعني بدء وضع خطة وطرق للحفاظ على هذا التراث وتطويره، والحفاظ على أحقية القائمين على هذه المهنة، بل وضع معايير لاختيار ما سينوبون عنهم بعد اعتزالهم أو رحيلهم: "هذا يعد بمثابة اعتراف رسمي بهذا الفن الإنساني وأنه سيخلد مدة طويلة من الزمن وستحفظه الذاكرة البشرية، وأنا أرى أن هذه أعلى مرتبة تقديرية في مجال الفنون الشعبية، كونها توازي في الأدب جائزة نوبل".


قصة بهجت مع الأراجوز بدأت قبل نحو ثمانية عشر عاما، وقتها انتعشت ذاكرة معد صيغة "ملف الأراجوز" وعادت إلى الوراء لسنوات كثيرة وقت كان في الرابعة من عمره، يخرج إلى شارع سعد زغلول في مدينته "أبو كبير بالشرقية"، بحثا عن هذا الرجل المجهول الذي يجعله يبتسم دون أن يعرفه، أو هكذا كان يظن: "كان أول عرض أحضره للأراجوز، بل أول عهدي به ولم أكن أعرف أن هناك فن شعبي مصري يحمل هذا الاسم".

أدرك بهجت حينها ومع مرور السنوات والمداومة على حضور عروض الأراجوز في الشارع، وبتحفيز من أمه، أن هذا هو المسرح المصري الحقيقي والذي يحتاجه الجمهور، أي المسرح المكشوف التلقائي البعيد عن النخبوية والطبقة العليا: "عشت عمري أدافع عن هذا المسرح لأجل هذا الرجل الذي أبهجني عرضه في طفولتي، كبرت ودخلت المسرح وفي داخلي قوة خفية بضرورة الحفاظ على هذا الأثر، فكانت رحلتي مع الـ 18 عاما من البحث عن هذا الفن وأصوله حتى يتسنى لي تخليد ذكراه".


في البداية لم يكن على دراية كافية بهذا الفن، قبل قراره بالسعي خلف كل جمع يشاهد عرض الأراجوز وخيال الظل، ظنه البعض ضربا من الجنون: "أنا أراجوز مصري، لأنه مني وأنا منه، بدأت رحلتي رغم انتقاد الجميع لي وقتها، يقولون دائما أنت عايز تبقى بتاع أراجوز؟ عيب.. أنت أستاذ جامعة".
دائما ما كان يستمع إلى هذه الكلمات في كل مرة يطرح مشروعه على أحدهم: "فكان أول ما واجهني عدم المعرفة بأي شي عن هذا الفن.. فلم أكن أعلم من يلعبه.. وأين وكيف.. وما هي نصوصه، إذن كيف سأعد ملفا أشبه بالبحث العلمي دون أن أعلم ما هذا الفن بالأساس، وبدأت رحلتي في الموالد أبحث عنه، إلا أنه كان قد اختفى، اختفى في كل الموالد!"، ثم علمت أن شارع محمد علي يحتفظ ببعض اللاعبين، وقبلها علمت أن مولد فاطمة النبوية به نصبة أراجوز، كذلك مولد السيدة زينب به عربية أراجوز، وفي الباطنية التقيت بأحد اللاعبين يدعى محمد كريمة متجولا في الشوارع، وفي فاطمة النبوية التقيت بصلاح المصري، وفي السيدة زينب التقيت بسمير عبد العظيم وحسن سلطان، وفي مولد النبي بقرية في الهرم التقيت بسيد الأسمر".

"مع مزيد من الجولات بدت الصورة أكثر وضوحا بالنسبة لي، من خلال البحث الميداني المكثف عن هؤلاء الذين حافظوا على شخص الأراجوز من خلالهم هم وحدهم، مكنش فيه رعاية رسمية لهذه اللعبة".


بحلول عام 2003، وبعد إلمامه شبه التام بفنون هذا الإرث، أسس بهجت فرقة "ومضة" التي استطاعت أن تعيد الأراجوز إلى الشوارع مرة أخرى، في ذلك الحين ومن خلال التجوال بين مقاهي شارع محمد علي بالقاهرة، عثر على "العم صابر" أحد أهم وأقدم لاعبي الأراجوز خيال الظل في مصر: "في البداية رفض التعاون معي، عرضت عليه مشروعي ورغبتي في إحياء هذا الفن والحفاظ عليه، كنت أراه البصير الذي أنار بصائرنا لهذا الفن العظيم، لكنه رفض، وعندها فقط اتخذت قرارًا بالمعايشة أن أذهب إليهم في أماكنهم، طوال اليوم أجلس في مقاهيهم، وبعد عدة أشهر فتحوا لي قلوبهم وعقولهم وبيوتهم أيضا فعلموني لغتهم الخاصة -السيم-.. كانت الأمانة سرًا أعظم لا أحد يخبرك كيف تصنع أو كيف ينطق الأراجوز".

تعلم بهجت كيف يُصنع وسيط العرض (البرفان - العربة الباردة - الخيمة) وما هي الدمى، والأسماء المختلفة لها: "هكذا بدأتُ ثم قررتُ أن أقوم بتكوين جيل جديد، فكانت أول ورشة لطلابي من قسم المسرح وبعض الفنانين، تعلموا فيها قواعد الفن على يد الفنانين الشعبين حملة هذا الفن".


ومع مرور الوقت، فوجئ بهجت ذات يوم بمكتب وزير الثقافة آنذاك "فاروق حسني" يخبره أن الوزير يحتاجه لعقد اجتماع بشأن أنشطته المتكررة فيما يتعلق بعروض الأراجوز في الشارع: "كنت مسافر أمريكا وقتها وعقدنا اجتماعا عقب عودتي، وسألني ماذا تحتاج لمشروعك قلت له أحتاج مكان أعرض فيه، وأقنعته أن يأمن أجور اللاعبين الشعبيين فكان اعتراف محلي بهذا الفن.. فحدد «بيت السحيمي» ليصبح يبتا لعروض الأراجوز، وبعد ذلك تحملت تكاليف العروض ماديا التي تعرضها الفرقة، وانتجنا نحو 36 عرضا مسرحيا سافرنا بهم حول العالم".

بعد ذلك جابت الفرقة العالم وقدمت عروض في 30 دولة مختلفة، وأنتجت 12 معرضا في دول عالمية، فضلا عن تقديم العروض بشكل ثابت كل جمعة في بيت السحيمي ما يعني 52 عرضا في السنة، وفي المجمل نحو 150 ليلة عرض داخل مصر: "بيت السحيمي ده بالنسبة لي، تاريخ وذكريات وعمر من العمل المتواصل لإحياء هذا الفن الشعبي الأصيل".


عادة ما يتسع حديث بهجت ويطول كلما جنح ناحية "والدته" هذه السيدة صاحبة القوى الخفية، والدفعات التحفيزية لابنها منذ كان في سنوات عمره الأولى، فهي من شجعته أن يخرج إلى عالم الأراجوز الذي لا يعلم عنه شيئا ويبحر فيه كيفما شاء: "والدتي كان لها دور مهم جدا وعلمتني كيف أكون صادقا، وكيف أحتفي بكرامة الإنسان وكيف أقاوم حتى انتصر، وأنا أقول أنه لولا أمي لما انجزت هذا المشروع الكبير، وأن أراهن على المستقبل، كان إيمانها بالمستقبل وزراعته بداخلي، علمتني استمع إلى سيد درويش وأشاهد عروض الأراجوز فكانت مفتاح الحياة في حياتي، على الرغم من بساطتها وعدم تحصيلها للقدر الكافي من الثقافة والتعليم، كان لديها مستودع حكمة لا ينضب، خاصة بما يخص الثقافة المصرية الأصيلة فنقلتها لي".
الجريدة الرسمية