سحر المكان وحقيقة الدنيا
يصعب جدا على أي إنسان تربى في قرية شهدت ملاعب صباه الأولى نسيانها مهما بلغ من مناصب أو تنقل في بلدان.. كما يصعب جدا على طالب عاش أربع سنوات بين جدران الجامعة تركها رغم أنه يتركها ناجحا.. وهو الشعور نفسه الذي يتطور مع الإنسان فيتحول كل مكان عمل به أو بمعنى أكثر دقة كتب الله له فيه "لقمة عيش" أن يتركه بسهولة..
لا أدري إن كان للأمكنة سحر يجلب الألباب ويأخذ بالقلوب والأبصار، فلا يدري من مسه ذلك السحر العاطفي العجيب سر سيطرة عشق المكان على نفسه.. بالأمس القريب منَّ الله على بزيارة قريتي "تونا الجبل" في محافظة المنيا قضيت فيها نحو 32 ساعة..
مكثت بالبيت أتحسس كل ما فيه.. فلكل ركن من أركانه معي ذكرى تعجز الأيام عن محوها.. فهنا ذاكرت وهنا قرأت وهنا استقبلت عزيزا وهنا جالست حبيبا.. هو الآن تحت أطباق التراب.. يا الله.. رحماك ربي بهذه السرعة تنقضي الأيام ويذهب العمر.. من طفل في الابتدائية بالكاد يجمع أحرف جملة.. إلى زوج ثم أب..
مراحل متسارعة جدا تتوالى الواحدة منها تلو أخرى.. وما عدنا نشعر بالوقت.. إن شعورا يتبادر إلى للوهلة الأولى حال تحرير ذلك المقال وهو أننا في هذه الحياة الدنيا مجرد "ضيوف" نعم نحن ضيوف نحيا مرحلة مؤقتة في الدنيا ولكل منا ساعة مجيء موعد قطاره ليرحل..
وما دمنا ضيوفا فلماذا الشحناء في تفاصيل حياتنا كافة؟.. كراهية وضغائن لمجرد خلافات عابرة.. وكم من ابن مات أباه أو والديه كليهما وهو لهما مخاصما.. وندم لموتهما فجأة قبل أن يصلح خطأه بحقهما.. وكم من أخ قاطع أخيه إلى أن تخطَّف أحدهما الموت فجأة فندم الحي منهما حيث لا ينفع الندم.
إن فحص وتدقيق حقيقة الدنيا يعيد إلى أذهاننا قول الرسول الكريم بشأنها فعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير، فقام وقد أثَّر في جَنْبه، فقلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وِطاء، فقال: "ما لي وما للدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"، رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
إنها الحقيقة المثلى والقيمة الفضلى في التعامل مع دار فناء.. أحرى بنا فيها أن ننثر بذور الخير وندفن نيران الشر.. ننشر الحب والسلام ونجافي الكراهية والبغضاء..
ولله درُّ قائل:
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنها وإن بناها بشر خاب بانيها
لا تركنن إلى الدنيا وما فيها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
واعمل لدار غد رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن ناشيها
رياحها طيب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها.