رئيس التحرير
عصام كامل

«محمد» آية نفسه!


يقول المفكر المصري المرموق نظمي لوقا، رحمه الله، تعليقا على افتقار دعوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لمعجزة خارقة كحال سابقيه من الأنبياء والرسل الكرام:


(في يقينيي أن تأييد دعوة حقٍّ بخارقة غير طبيعية مسألة لا تُستساغ إلا في حالات انحطاط العقل البشري، فهذا أشبه بالاحتيال على الطفل ليقبل على الطعام الذي يقيم أوده، وهو حري أن يطلبه ويلح في طلبه لو أوتي الرشد.. فالحقيقة آية نفسها.. إن التقدم المادي تحسين لظروف الآدمي، وليس تحسينًا لذات الآدمي، وتقدم لأحوال الإنسان، وليس تقدمًا يصيب ذات الإنسان ووجدانه).

ويؤكد هذا المفكر المنصف الموضوعي على شيء بالغ الأهمية في رسالة الإسلام ومبلغها ألا وهي التطور وبلوغ مرحلة متقدمة من الرشد الإنساني، فلقد أتى النبي برسالة من عند الله تواكب تطور العقل البشري والطبيعية الإنسانية، التي كانت تعاني لقرون طويلة من انحطاط وتدني معرفي لا يصلح معها إلا إنزال خوارق قاهرة لطبيعتهم حتى يؤمنا بها أو بالله منزلها، أما دعوة محمد فهي دعوة موضوعية منطقية تخاطب العقل البشري والنفس الإنسانية في سمو ورقي..

فهى تجعل الإنسان شهيدا على نفسه وعلى وجود خالق أبدعه وسواه فيقول الله في القرآن الكريم (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)، ثم يدعو المخلوق لتدبر ما حوله من سموات وأرض وبحار وأنهار، فيبلغنا الرسول آيات المولى في سورة البقرة التي تدعونا للتفكر دوما في خلقه (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

آيات لقوم يعقلون.. تلك إذن هي المسألة، العقل الإنساني والوصول للرشد والتطور الذي يناسب الإنسان المكرم من قبل خالقه والمفضل على كل مخلوقاته.. ليس الإسلام دين قلب فقط كما في الأديان التي سبقته أو دين قوم فقط كما في اليهودية وسلالة بني إسرائيل، بل هو دين عقل ينتشل البشرية كلها من مستنقع الجهالة والضلال إلى نور العلم والعمل والتعقل..

دين منطق وليس دين طقوس، دين مساواة بين كل البشر دون حاجة لكهنوت يوصل رسالة للرب، أنت لديك عقل تعي به وتدرك وتبصر به موقعك في هذا الكون الفسيح، فحري بك أن تتوجه إلى الله مباشرة ليتغمدك برحمته ورضوانه ونراه السرمدي، حيث يطمئننا الخالق الرحيم إلى أن ندعوه هو وحده فقط فيستجيب لنا، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، بل علينا أن نسأله هو وحده وهو قريب فيبلغ الرسول تلك الآيات عن ربه في صدق وتجرد:

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).. الرشاد غاية هذه الرسالة المحمدية، التي نزلت في أم القرى لتنطلق إلى العالم بأسره لتعلمه كيف يتطور ويترك القبيلة والشعوبية والتحزب ويتجه للخالق كغيره من البشر، لا فضل لغني على فقير أو لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، لا وجود لعنصرية فهي كما وصفها مبلغ الرسالة الكريم.. منتنة!
بشر مثلكم !

والجميل هنا أن في ذلك لب حقيقة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فهذا النبي لم يدعو إلى جعل نفسه وسيطا بين العبد وبين الرب حتى ينال شرفا زائدا وهو بكل تأكيد مستحقه وأهل له، فهو بشر مثلنا وليس على العباد بمسيطر.. هذا بنص القرآن الذي يتلوه دون أدنى تبديل كما أُنزل إليه من لدن حكيم خبير.

يبلغ الرسول الكريم الصادق الأمين الرسالة متجردا من كل تطلعات النفس البشرية إلى الشرف والفخر، فها هو يقر ببشريته فيقول كما أمره مولاه (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)..

حقا الحقيقة آية نفسها، فهل هذا النبي الكريم المتجرد الأمين الزاهد في كل سلطات الدنيا يمكن أن يكون كاذبا أو ناقلا أو مزيفا، لو كان كذلك ما بلغ تلك الآيات التي تقر ببشريته وأنه مجرد بشر يوحي إليه، لو كان كاذبا لكان أولى به أن يدعي أنه ابن لله أو شريك له أو حتى ملك، بل هو يتواضع وهو عظيم ويدنو من البشر وهو أعلاهم خلقا وقدرا ويرفض الملك والمال من قبل قومه مقابل التنازل عن الرسالة التي سمت ببشريتهم ورفعت من شأنهم وجعلت المساواة هي دستورهم، عليه أفضل الصلاة والسلام.. وللحديث بقية عن محمد أعظم البشر.
fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية