بين الرئيس والإمام!
بدا أن المناظرة غير المباشرة في احتفالية المولد النبوي بين الرئيس السيسي وفضيلة الإمام أحمد الطيب عند البعض وكأنها خلاف بين الرجلين، وراح بعض غلاة العلمانيين ينتصرون للرئيس بينما راحت قنوات الإخوان تختلق وتؤول ما لم يحدث وتنتصر لشيخ الأزهر..
وهكذا راح الغلاة من الطرفين ينفخون في فتنة من وحي خيالهم، وكل ما قاله الإمام إن السنة جزء لا يتجزأ من الدين، وضرب مثلا على ذلك بكيفية الصلاة التي لم يشرحها القرآن، وقال إن علم الحديث قد بلغ أعلي درجات الدقة في الإسناد، ولم يتطرق فضيلته للشروح والتفاسير والآراء، وعندما تحدث الرئيس أكد على السنة النبوية ودورها في القيم الإسلامية، لكنه تكلم عن الشروح والتفسير والآراء، أي أن هناك تكاملا لا تعارضا..
ومن يسعى لوضع حديث الإمام في مواجهة حديث الرئيس فهو يسعى لوضع الرئيس حاشا الله وكأنه يطعن في السنة، وهو افتراء، والحكاية على بساطتها نموذج للتطرف في الحب كالدببة، والتطرف في الكره كالحمقى، فلا شيخ الأزهر زعيم سياسي ولا الرئيس رجل دين، بالرغم من أن هناك من يحاول خلط الأمور في زمن الفتنة..
وأغلب الظن أن شيخ الأزهر كان يوجه كلامه لمنكري السنة، ومن يريدون الاعتماد فقط على القرآن من فئة القرآنيين، وكان الرجل يدافع عن المؤسسة العريقة مما ينالها ليل نهار من بعض الصبية وبعض المتعولمين، بينما أراد الرئيس التحذير من الصورة السلبية للإسلام بفعل حماقة وتطرف كثير من المسلمين، ونص ما قاله ذكره الشيخ "محمد عبده" بعد عودته من أوروبا أوائل القرن الماضي، "وجدت هناك مسلمين بلا إسلام ووجدت هنا إسلاما بلا مسلمين"..
ثم كثير مما وصلنا من الأحاديث ليست من السنة، وأبو حنيفة الإمام الأعظم لم يذكر من الأحاديث إلا سبعا ولم يفرض رأيا، وقال: (علمنا هذا رأي من أتانا بأحسن منه قبلناه منه)، والشافعي واضع علم الفقه كان يقول "رأيّ صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، وكان له فقه بالمدينة وفقه بالعراق وفقه بمصر، وربما لهذا اعتبره كثيرون من المجددين الذين أخبرنا عنهم الرسول (ص): (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).
ومن المعروف أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي خلفه نبي، ولما ختمت النبوة برسولنا محمد صلي الله عليه وسلم جعل الله العلماء هم ورثة الأنبياء، وكان طبيعيا أن يواجه هؤلاء العلماء ما واجهه الأنبياء من طعن ورفض والتشكيك في اجتهادهم، وذلك لصد الناس عن الحق، ثم كان الطعن في السلف الصالح، وكان الإمام "مالك" يرد عليهم بقوله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"..
ومن المعلوم أن التجديد يكون للأمة وليس للدين الذي شرعه الله، وأكملت ذلك أن التغير والضعف والانحراف يطرأ على الأمة أما الإسلام نفسه فمحفوظ بحفظ كتاب الله تعالى وسنة رسوله (ص)، المبينة له في قوله تعالي: (إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)..
والمجددون في الإسلام هم من يعتقدون أن الدين الإسلامي هو دين المياه المتجددة بوصفه دينا لا يتعارض مع أي تطور علمي أو أي تقدم لم يكن يتخيله المجددون السابقون، وهذا يختلف كثيرا عن مناهج السلفيين التي تري بإحياء السنة وإماتة البدع ذلك أن فكرة التجديد ليست هي العودة إلى ماض بعينه ولا ترتبط بعصر دون غيره ذلك لأن فكرة التاريخ في الفكر الإسلامي ترتبط بفترة ذهبية تاريخية..
بما يعني تحويل مسار التاريخ إلى مسار هابط كلما ابتعدنا عن نقطة الأصل أو البداية فيه هو انحدار في سلم القيم أو الفهم الدائري للتاريخ، الذي يتصور التاريخ على أنه حركة أشبه بحركة الدائرة التي تبدأ من نقطة لتعود إليها، والحكاية باختصار أن المجدد يستعيد الأصل النقي لينفي عنه كل الشبهات والشوائب التي تعوق مجراه..
وبالتالي فإن التجديد ليس هو قتل القديم كما يعتقد غلاة العلمانيين الذين يريدون صياغة دين جديد تحت لافتات مقاصد الشريعة، ويصطادون بعض سقطات الدعاة كإرضاع الكبير ومضاجعة الميتة في الهجمة على القرآن والسنة وإنتاج تشريعات تلائم دينهم الجديد، ويقترحون استبدال تحريم الخمر بمنع ومعاقبة السكر العلني، واستبدال تحريم الربا بمنع ومعاقبة الاستغلال الاقتصادي للأفراد..
لحسم الخلافات حول ما هو خمر وما هو نبيذ وما هو بنوك ربوية وبنوك إسلامية، ويمضون في غيهم بتوسيع معنى الزني، وإعادة تعريف العلاقات خارج الزواج التقليدي، والتفريق بين ذلك ومفهوم الرذيلة وذلك بتوسيع مفهوم الزواج بأنه كل علاقة مبنية على المودة والوفاء ولا تمس الآخر، وهم يعتبرون ذلك اجتهادا وتجديدا، بينما يقفون بالمرصاد للمعتدلين والدارسين لعلوم الفقه والتفسير والحديث عندما يطالبون بالاجتهاد في إطار النص والتجديد للأمة وليس للنصوص..
وفِي كل الأحوال ستظل قضية الاجتهاد والتجديد مثارة حتى يظل الإسلام، رغم أنه صالح لكل زمان ومكان ولو كره الكارهون وما أكثرهم.