حكاية النيابة الإدارية مع تعدد نظم التأديب
يطوف بذاكرتي كلما تحدثت أو كتبت عن القضاء ورجاله وهذه الأعباء السامية التي شرفوا بولايتها ما كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، وعممه على جميع القضاة الذين ولاهم القضاء في الأمصار أن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة.
ونتحدث اليوم عن هيئة النيابة الإدارية التي شهدت منذ بواكير إنشائها تطورات جمة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي سادت المجتمع المصري منذ فجر ثورة 23 يوليو 1952، بصدور القانون رقم 480 لسنة 1954، الذي أذن فيه المشرع المصري للنيابة الإدارية أن يبزغ نورها ويتجسد وجودها ويتحقق كيانها اعتبارًا من 15 ديسمبر عام 1954.
اضطلعت النيابة بدورها وباشرت مهامها مستهدفة ليس فقط معاقبة الخارجين على القانون من موظفي الدولة، إنما الكشف عن أوجه القصور سواء في الأداء أو في الأنظمة التي تحكم هذا الأداء لما قد يصيبها من عيوب تستوجب تفاديها أو تغييرها حفاظًا على المجتمع الوظيفي، الذي يتأثر دون شك بما يعتري الأنظمة من أي خلل.
وفي هذه الآونة كان القانون الذي يحكم المجتمع الوظيفي هو القانون رقم 210 لسنة 1951 بشأن نظام موظفي الدولة، حيث لم يسبقه تشريع للموظف العام إلا ذلك الذي صدر به الأمر العالي عام 1878 بتشكيل مجلس النظار، وقد توالت التشريعات بعد عام 1951، فصدر القانون 46 لسنة 1964 ثم القانون رقم 58 لسنة 1971، فالقانون رقم 47 لسنة 1978 وتعديلاته، وصولًا إلى قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016.
كما تأثرت الحياة الوظيفية بما ساد المجتمع من فكر اقتصادي سار فيه الاقتصاد القومي على أساس التخطيط والتنمية، واقتضت سياسة التوجيه تأميم الكثير من المشروعات وقيام القطاع العام، فصدرت عدة قرارات جمهورية لتنظيم أوضاع العاملين بالمؤسسات العامة بدءًا من القرار رقم 1528 لسنة 1961 حتى القرار رقم 3309 لسنة 66 بإصدار نظام العاملين بالقطاع العام.
وفي عام 1971 صدر القانون رقم 61 لسنة 1971 بإصدار نظام العاملين بالقطاع العام ثم ألغيت المؤسسات العامة عام 1975 وصدر بعدها القانون رقم 48 لسنة 1978 بشأن نظام العاملين في القطاع العام، ثم صدر القانون رقم 97 لسنة 1983 بإنشاء هيئات القطاع العام، ولم يدم ذلك طويلًا فاتجهت الدولة إلى تحرير القطاع العام وتطويره بهدف تحقيق النتائج الاقتصادية المرجوة، وذلك بالفصل بين الملكية والإدارة، فصدر القانون رقم 203 لسنة 1991 بإصدار قانون قطاع العمال العام.
ولم يتأثر وضع النيابة الإدارية بهذه التشريعات المتلاحقة، بل انبسطت ولايتها لتشمل جميع الطوائف العاملين الخاضعين للشريعة العامة وهم طائفة العاملين المدنيين بالدولة الذين تسري عليهم أحكام قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016، وأولئك العاملين بالقطاع العام الخاضعين للقانون رقم 48 لسنة 1978.
وقد جهل من ظن أن ولاية النيابة الإدارية قد تقلصت وانحسرت، وانكمش دورها وانتقص أداؤها، إلا أنه تلاحظ مما كشف عنه الواقع والعمل أن نظام التأديب المعمول به في مصر هو في أصله نظام طائفي للعقاب، إذ ينصرف إلى تأثيم تصرفات ترتكب انتهاكًا لنظام طائفة معينة لعدم وجود نظام تأديبي عام يشمل جميع الطوائف، بل هناك نظام تأديب مختلفة سواء كانت هذه النظم في نطاق الوظيفة العامة أو في نطاق العاملين بالقطاع العام أو النقابات المهنية.
وإزاء تعدد نظم التأديب، راحت بعض الجهات تنشئ مجالس تأديب بقصد فرض هيمنتها وسلطتها في العقاب على طائفة العاملين التابعين لها، وقد خلت مجالس التأديب من أي عنصر قضائي مما يهدد ضمانة جوهرية كفلها المشرع لجميع العاملين بالدولة، وصار حتمًا وواجبًا أن يتدخل المشرع ليعطي النيابة الإدارية الحق في الإدعاء التأديبي أمام هذه المجالس.
كما أنه بات من الضروري أيضًا أن يتدخل المشرع وبصفة عاجلة لإدخال بعض الجهات التي تخضع حساباتها لفحص الجهاز المركزي للمحاسبات، التي تعتبر أموالها في حكم المال العام وعمالها في حكم الموظفين العموميين عند تطبيق جرائم الباب الرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات، لأنه ليس من المستساغ أن تمتد ولاية النيابة الإدارية للموظف العام الشريك في جريمة ارتكبها أحد ممن تنظم التحقيق معهم وتأديبهم قوانين خاصة دون أن تتناول الأخير هذه الولاية، وبغض النظر عما إذا كانت النيابة الإدارية تصدت للتحقيق في الواقعة من عدمه.
ورغم كل ذلك لم تقف النيابة الإدارية مكتوفة الأيدي إزاء التطور العصري بالنسبة لبعض الجرائم التي أخذت طابعًا غير تقليدي، فظهرت جرائم أخرى تعكس الأداء المصرفي وما شابه من فساد، حيث تم إعداد دورات تدريبية حاضر فيها نخبة من رجال القضاء والقانون والمتخصصين.. وللحـديـث بـقـيـة