رئيس التحرير
عصام كامل

محمود عبدالدايم يكتب: بيتهوفين والسيمفونية الخامسة للأحذية

محمود عبدالدايم
محمود عبدالدايم

«ضربةُ القدر».. السيمفونية الخامسة لبيتهوفن.. وقرص مهدئ واحد، يكفيانِ لتمريرِ صباحٍ خريفيٍّ مملٍ، لا داعيَ لزيادة الجرعة، فالسيمفونيةُ القاتلةُ.. التقلباتُ الحاصلةُ للجو، الحديثُ المتوترُ لمذيعة النشرة الجوية، الأسبوعُ الأخيرُ في الشهر.. كلُّ هذه الأشياءِ لا تصلحُ إلا للتماهي معَها، قبولها على عِلَّتها، لتقبلني هي الأخرى على عِلَّتي.. بصداعي النصفي المزمن.. توتري الحاد غير المفهوم.. والكارثة الكبرى التي أصنعها عندما يضغط أحدهم بلا مبالاةٍ على حذائي!


حذائي... مثلي.. متوتر على الدوام.. لا يكتمل لمعانه إلا في أيام الربيع، أمنحه رعاية خاصة خلال الأيام المزهرة تلك، وبقية العام أتركه مثلي.. يستقبل الحياة في صمت.. الأتربة.. القاذورات.. السقوط المفاجئ في الوحل.. البقاء وحيدًا في أحد الأركان دون أدنى شعور بملل أو زهق أو حتى رغبة في تغيير المكان، مصابًا بالاكتئاب مثلي.. مريضًا بالوحدة.. يلعق أطرافها وحيدًا.. ويمنحها قليلًا من دفء ترغبه!

«الأحذية لا تكذب».. ألقيتها بلا مبالاة تليق بي على صفحتي الشخصية في «فيس بوك»، وأغلقتُ حسابي، رحلاتي المتوالية.. المعتادة.. الرتيبة في قطارات المترو منحتني الثقة العظيمة التي كتبتُ بها أحرف الجملة تلك، الأحذية لا تمتلكُ وجهًا.. وهذا يكفي حتى لا تكونَ كاذبةً.

مقعد الزاوية.. موقعي المفضل الذي أقتنصه كل صباح، يتيح لي مساحةً كافيةً لمتابعة حديث الأحذية، الحوارات الجانبية، اللمسات الخفية.. والانكسارات الدائمة، فالرجل الخمسيني الذي يواجهنى بنصف جسد، عقدَ رباطَ حذائِه البُنّي ببلاهة ومأساة واضحة، فاضحة، حاول أن يصنع من الرباط المهترئ «فيونكة» فخرجت «مشنقة»، ملامحه الجامدة لم تستطع إخفاء الخيبة. 

منصة الإعدام التي نصبها على حذائه فضحته، كانَ الطرفَ الأضعفَ في العلاقةِ.. ملابسه كانت هي الأخرى شاهدة على الفضيحة، لم تكنْ نظيفةً كالتي تمر عليها أصابع امرأة، كانت جافة.. جائعة.. بلا أدنى رغبة في الحياة.. يبدو أنه علقها على المشنقة التي لم يستطع أن يصنعَ منها «فيونكة».. واليوم ينتظر دوره في طابور الإعدام شنقًا على قيد الحياة.

صاحب «رُباط الإعدام»، لم يُعدل موضعه طوال محطاتٍ ست.. ترك قدمه اليسرى تتأرجح في خمولٍ مملٍ، بعدما وضعها بألم - لم يتمكن من إخفائه - فوق شقيقتها اليمنى، ثلاثُ فتياتٍ مَررْنَ إلى جوارِه لم يدفعْنَه للتحرك.. تعديلِ الوضع، وإخفاءِ المشنقة، الثانية.. القصيرة.. أكثرهنَّ جمالًا ارتطمت قصبتُها بمقدمة الحذاء.. حركت «المشنقة» سنتيمترات قليلة.. تأرجح «الرُباط القاتل».. لكن صاحبه لم يهتز.. فكرتُ بالقفز لإنقاذها.. تخليصها من لعنة «مشنقة الفيونكة»، لكنني تراجعتُ، كانت السيمفونيةُ المهزومة في منتصفِها، أوتار الكمان تصرخ في غضبٍ مهزوم..

الطبول هي الأخرى حاضرة في المشهد الصوتي.. البيانو كئيب.. كآبة لحظات الفراق الأولى.. الانسحاب.. الانكسار.. وعصا المايسترو تشق جسد الهواء.. فاكتفيت بهز قدمي اليسرى مع النغمات القاتلة، الهاربة في فزع من «سماعة الأذن».. وضبطتُ وضعي جيدًا على مقعد الزاوية.

واجهت حذاء الفتاة التي اقتربت قليلًا من حافة «المشنقة».. عادية كانت.. كاذبة.. تمتلك وجهًا طفوليًا فاضحًا رغبتها في التخلي عنه، وتغييره بقناعٍ يصلح لامرأة تمتلئُ بالرغبة.. عيناها لم تكن محايدة.. لحظتها.. كانت غاضبة من جمود «الخمسيني» الوقح الذي لم يبادر بالاعتذار.. تعديل جلسته.. أو حتى هز رأسه أسفًا..

كانت تريده أن يكون قريب الشبه ببطل الرواية التي تمسكها بين كفيها الصغيرين.. ينتفض.. يقف.. يعتذر.. يمسك يدها.. يدعوها للرقص.. يدور بها على محال الملابس.. الأحذية.. الهدايا.. والمطاعم.. لكنها لم تلمح المشنقة التي تتأرجح في قدميه، فتأملته في غضب لم يخلُ من قلة حيلة وأرخت جفونها متصنعة لقاء بطلها في أوراق الرواية.. وتركتني وحيدًا أواجه حذائها «الكوتشي الأزرق الكالح».

تمامًا.. هدأَ غضبُ أوتار الكمان.. البيانو انسحبَ بشكلٍ كاملٍ من المشهد.. تخيّلتُ أنَّ العازفينَ تنفَّسوا الصعداءَ.. المايسترو قللَ من حدة توتره.. ومناديل القماش خرجت من الجيوب لِتُزيلَ حبيباتِ العرقِ التي تراكمتْ فوقَ جباه أعضاء الفرقة.. لمحتُ عازفَ الطبول يجلسُ أخيرًا.. منهكًا مرخيًا ذراعيه في ألم.. في انتظار ارتفاع عصا المايسترو من جديد ليبدأ رحلة «الدق» التي لا تنتهى، وكأنه مصابٌ بلعنة إلهٍ أراد أن يشغل وقت فراغه!

ساذجًا.. عاديًا.. لا يلفت النظر، كان حذاء الفتاة.. مغبرًا، حزينًا.. لم تتمرد خيوطه.. نقوشه.. أربطته التي كانت في يوم ما زاهية.. اليوم ألوانه مشوهة.. غبية.. أثارت غثياني.. لم أستطع استكمال رحلتي معه، فاصطدمتُ في رحلة عودتي لحذائي الأزرق الكئيب.. بحذاءٍ آخر مهترئ.. متآكل الحواف.. تضغط على مؤخرته بخشونة قدم تمتلك شقوقًا واضحة عند الكعب.. شقوقًا ترابية اللون..

عميقة جدًا.. مرهقة تفاصيلها، كانتْ لعجوزٍ، راهنتُ نفسي وربحتُ الرهانَ، سمراءَ.. لم تخلُ من مسحةِ جمالٍ تربعَ على وجهِها.. على جسدها في أيام ولَّتْ.. لم تكنْ حزينةً.. كل ما في الأمر أنها مرهقة.. متعبة.. أرادتْ أن تريح أقدامها من الحذاء الضيق الذي تخلَّتْ عنه ابنتها، ومنحتها إياه في مناسبة ما، لا تتذكرها الآن.

اللحظات الأخيرة للسيمفونية.. العافية دبَّتْ في أوتار الكمان.. عادتْ إلى سيرتها الغاضبة.. أنينها كان موجعًا هذه المرة، يبدو أنها لحظة الفراق.. القدر يرفع كفه اليمنى.. يضغط أصابعه الكبيرة المخيفة.. في كفيه.. يلوح بقبضته المتماسكة.. العملاقة في الهواء.. ينتظر التوقيت المناسب لينزل بها -بلا رحمة- على أحدهم..

ربما أكون أنا.. ربما الرجل الخمسيني.. ربما الفتاة الثانية.. لكنني توسلت ألا تكون العجوز هي التي اختارها القدر.. توسلت كثيرًا.. لا تستحق أن تموت بـ«حذاء ابنتها»، عاهدت القدر إن تركنا هذه المرة، فإنني سأمنحُها حذائي.. سأنفض عنه التراب العالق.. سأعيد إليه لمعان أيام الربيع.. سألعقُ من مقدمته بقايا الوجع والألم.. سأرتق القطع الخفيف الذي بدأ يعلن عن وجوده في جانب «الفردة اليسرى».. سأخفي بمهارة تليق بقاتل مأجور الخدوش التي خلفتها عمليات الدهس التي تعرض لها، سأجعله حذاءً يليقُ بموعدٍ معَ القدر.
الجريدة الرسمية