مصر في غزة ومصر في ليبيا
في الأيام القليلة الماضية أثبتت الدبلوماسية المصرية قدرتها على التأثير في الأحداث الواقعة شرقا وغربا من الحدود المصرية، تأثيرا يحمي أهداف الأمن القومي المصري بشكل مباشر، ففي الوقت الذي اندلعت فيه حرب تسخين على الحدود بين غزة حماس وإسرائيل، كان الرئيس عبد الفتاح السيسي يقود الدبلوماسية المصرية في باليرمو بإيطاليا، حيث عقد مؤتمر للأطراف الفاعلة في الأزمة الليبية، فضلا عن دول الجوار.
حضر المؤتمر كل الفرقاء الليبيين وفايز السراج رئيس الحكومة الليبية المخترقة إخوانيا ومتعاونة مع ميليشيات مارقة، والمعترف بها دوليا، كما حضر اللواء خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي المدعوم من مصر، وحضرت تركيا وقطر وروسيا والاتحاد الأوروبي وفرنسا وغيرهم.
المباحثات عقدت مع إهمال دعوة تركيا لجلسة حاسمة بين بنغازي حفتر وطرابلس السراج فاحتجت وانسحبت وقالت إن شيئا لن يتحرك على الأرض في ليبيا ما لم تكن تركيا طرفا في إتمامه!
تبادل الفرقاء الليبيين الآراء بشكل عار وصادم.. وبصفة عامة كانت الجلسات لمصلحة استقرار ليبيا، وللجيش الليبي، وتلقت مصر الثناء والتقدير لرؤيتها وحفاظها على المؤسسات الليبية ودعيت إلى استمرار دعمها للدولة الليبية.. كما لاقت دعوتها لتسليح دولي جزئي للجيش الليبي قبولا.
بالتزامن مع مباحثات الجبهة الليبية، كانت حماس أطلقت صواريخ موجهة على أتوبيس فأصابت مواطنا إسرائيليا. صاروخ على حافلة يحقق إصابة!
صاروخ محشو بالزلط يحقق ما هو أكثر من إصابة!
كانت القوات الخاصة الإسرائيلية دخلت القطاع وقتلت ستة من الحمساوية.. كما تكفلت الدرون (طيارة دون طيار) بقتل قيادي منهم، ردت حماس بإطلاق ٤٠٠ صاروخ على المستوطنات وعلي عسقلان، وجميعها حققت أهدافها، إذ جرحت ١٩ اسرائيليا!.
ردت إسرائيل بقصف منشآت ومبان لحماس ودمرت محطة تليفزيون الأقصى، بعد إنذار منها لموظفي المحطة بضرورة مغادرة المبنى.. في سابقة غريبة على الهمجية الإسرائيلية.
مع اشتعال الأوضاع شرقا، تدخلت المخابرات المصرية لوضع تسوية واتفاق تهدئة، أصلا كانت حماس تسعى إلى هدنة عشر سنوات، برعاية مصرية قطرية أممية، الاتفاق الذي صاغته مصر ووافقت عليه إسرائيل، ألزم حماس بوقف مسيرات حرق الكاوتش وقتل الشبان الفلسطينيين على الحدود مع إسرائيل، ووقف القصف الإسرائيلي مع تأكيد حق إسرائيل في الضرب مرة أخرى إذا سقطت عليها صواريخ من حماس.
من المؤكد أن هذا اتفاقا مؤقتا، ومن المحتمل أن الموقف سينفجر على نحو أعنف مما جرى في حرب غزة عام ٢٠١٤، بالطبع استقال وزير الدفاع اليميني المتطرف افيجدور ليبرمان رئيس حزب "إسرائيل بيتنا"، وبذلك خسر نتنياهو مقعدا في البرلمان وصار يتمتع بأغلبية مقعد واحد (٦١ مقعدا من أصل ١٢٠).
نتنياهو قد يشغل منصب وزير الدفاع، لكن حزبا آخر شريكا معه (البيت اليهودي) في الائتلاف يطالب بالمنصب.
تلك هي الوقائع بإيجاز، كل الأطراف تعلم أن حماس غير جادة، ولن تكف عن إطلاق الصواريخ الزلطية، وكل الأطراف تعلم أن إسرائيل لن ترضى بجو الأفراح الشائع في الشارع الغزاوي على خلفية خروج ليبرمان من الحكومة، وتعتبر حماس خروجه انتصارا في المواجهة بين الطيران الإسرائيلي والصواريخ الأربعمائة المحشوة زلطا ورملا وبارودا!
السؤال الذي يلح بقوة هذه اللحظة هو: لماذا أصنع بنفسي ذلك؟ ما الهدف من إلقاء صواريخ عقيمة أتلقى بدلا منها صواريخ مدمرة من عدوي؟
حماس تطلب هدنة لعشر سنوات.. فكيف يتفق ما تفعله مع ما تريده؟
تحسب حماس أنها شقت الحكومة الإسرائيلية، وأنها جعلت نتنياهو في مواجهة مع ليبرمان، وقد يضطر نتنياهو إلى خوض انتخابات مبكرة قبل موعدها بعام ليحقق أغلبية تمكنه من إعادة تشكيل حكومة مستقرة ذات صلاحيات واسعة.
صواريخ القسام تستدعي الضرب على الشعب الفلسطيني في غزة، وتتعمق الهوة بين رام الله العاجزة دوليا وواقعيا، وبين حكومة إخوانية فاشلة ومارقة تقود القضية الفلسطينية إلى عقد كامل من النوم في الثلاجات.. إن صمد الاتفاق المؤقت الحالي وتبعته مفاوضات الثمن، والثمن المقابل له!
طريقة الإخوان واحدة: لا بأس من كأس وبدلة رقص، مشفوعة بعملية انتحارية، باسم الله وفي سبيل حور العين!
حماس تتاجر بالدم الفلسطيني.. وتريقه ببساطة.
في كل الأحوال، شرقا وغربا، تبقي مصر فاعلة وموجهة وقادرة.. وموضع الثقة والاحترام، لأنها لم تعرف أبدا في سياستها الجمع بين الكذب والوطنية.