رئيس التحرير
عصام كامل

عوْدًا على «عبس وتولى»


ذكرتُ في مقال سابق أنني أستبعد أن تكون سورة "عبس وتولى....." نزلت لتصويب تصرف خاطئ، والعياذ بالله، لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها تحمل عتابًا من الله لنبيه؛ لأنه تجاهل عبد الله بن أم مكتوم، وعبس في وجهه؛ بسبب مشاغلته له أثناء دعوته لـ"عظماء المشركين" إلى الإسلام.


واحتجَّ بعضُ من أثقُ بثقافتهم، ورجاحةِ عقليتهم من الإخوة والزملاء، وعلَّقوا على المقال بأنه ليس في عتاب الله تعالى لنبيه الكريم شيء.. فقد عاتبه سبحانه في غير موضع بالقرآن الكريم.. وأنا أتفق معهم في ذلك.

لكنَّ ما لا أستسيغه هو استعمالُ الكلمات المغلظة، والتعابير الفظة في خطاب الله لنبيه، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما لا يتسق مع آي الذكر الحكيم جميعه.

أما تهمة أننا "نلوي أعناق النص القرآني ونطعن الحديث النبوي.. بسبب الحب الجارف والطاغي للنبي الكريم - وهذا شأن أهل التصوف وأربابه- وأن ذلك يدفعني أحايين كثيرة إلى أن أنزع عنه صفة البشرية"، فهذا ما أستعيذ بالله منه، وأبرأ منه، وأستغفر الله منه، وأحذرُ أن يحدث؛ فسيدنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، هو عبد الله ورسوله، والدالُّ عليه، وهو أقلُّ عن نفسه: "إنما أنا ابنُ امرأةٍ كانت تأكل القديدَ بمكة".. والقرآن الكريم يقول على لسانه: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ".. و"وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ"، النبي بشر، لكنه يصيبُ ولا يخطئ؛ لأنه معصومٌ من الخطأ والسهو والنسيان.

نعم، لا ضيرَ في أن يعاتب الله نبيه ويوجهه... لكن لا يعاتب الله نبيه بتلك الألفاظ، ولا يغلظ له في القول، بل استخدم، سبحانه وتعالى، أرقَّ الكلمات، وأجملَ التعبيرات، والمصطلحات في خطابه لرسوله، ولم يستعملْ ضمير الغائب في خطابه، ولا مرة. وإنَّ ابتداءَ الله تعالى بصورة المفرد الغائب، ثم بصورة المفرد المخاطب عدولًا عن الغيبة، فقد ورد هذا الأسلوب في غير سورة في القرآن الكريم يُراد بها غيرُه، صلى الله عليه وآله وسلم، كما في سورة القيامة: (فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى).

وفي سورة المدثر: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ).

وصرف كون الضمير مفردًا مخاطبًا في الاستعمال القرآني لا يدل على أن المراد به النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعيدًا عن "عبس وتولى".. وفي غير موضع في القرآن الكريم نجد عتابا من الله العلي القدير لنبيه، مثل: إشكالية زواج متبناه أسامة بن زيد من زينب بنت جحش.. الله يقول لنبيه في هذه الأزمة: "أتخشى الناس والله أحق أن تخشاه"، (هذا رفق من النبي بالناس، ورحمة بهم، وليس خوفًا، بالمعنى الحرفي للكلمة؛ فهو رحمة الله للعالمين، وصاحب الخلق العظيم، ومن أدبه ربه فأحسن تأديبه، وإن كانت خشية فهي خشية منه على الناس أن يُفتنوا ويضلوا).

وعندما يدعوه ربه إلى عدم خشية الناس، فهو تنبيه للناس بعدم التردد في قبول حكم الله، وأمرٌ من الله لرسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، لإعلان حكمه تعالى.

أما قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ".. هذا نصٌ واضحٌ وصريحٌ لا شكَّ فيه.. فالنبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، يفرض على نفسه الأصعب وهو تحريم بعض الحلال؛ إمعانًا في طاعة الله وتقواه، واتقاءً للحرام والشبهات، وليس تغييرًا لأحكام الشريعة.

وقوله تعالى: "عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ؟".. لون من العتاب الرقيق من الخالق، سبحانه وتعالى، لرسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، لشدة رفقه بالناس.

ثم إن قول المنتقدين: "الادعاء بأن الله ينزل سورة كاملة في عتاب أحد الصحابة كما ذهبت.. فهذا مردود عليه ولا يصح أن تردده أو تنقله عن غيرك"، فردًّا عليه أقول: ليس ادعاءً، لكنه حقيقة، فالأقرب للفهم والفطرة السليمة ألا يكون العتاب للرسول، صلى الله عليه وآله، وسلم، بتلك القسوة، وذاك العنف، وأنه عتابٌ لأحد كبار الصحابة، ولم يشأ الله، تعالى، رحمة به وبالمسلمين، أن يصرح باسمه، فإذا بالمفسرين والرواة يلصقون الأمر بالنبي، مختلقين رواية غير منطقية، كما أسلفنا.

وأتمنى من علماء الدين أن أجد لديهم ردًا مقنعًا، ومنطقيًّا.. وهذا من رأيي، ولم أنقله عن أحد، ويا ليتني وجدت هذا الاتجاه عند أي أحد.

علينا أن نسأل أنفسنا: هل القرآن الكريم يوافق على نسبة هذه السورة إلى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؟.. والجواب قطعا: لا يوافق.. إنما القرآن الكريم يرد على مثل هذه الأفهام التي تريد جاهدة وعازمة أن تنال من قدر الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، وتحط من قدره؛ لغاية ما، من هنا أو هناك.. ونحن نعلم أن هنالك العديد من الروايات التي نسبت إلى الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم، كذبًا وافتراء للنيل من شأنه وتحقير منزلته من قبل أعدائه الذين أرادوا أن ينالوا منه في حياته، ولما استحال الأمر عليهم.. سنحت لهم الفرصة بعد انتقاله لبارئه، ففعلوا ما فعلوا وابتلونا بما نعاني منه الآن!

وإذا كان هناك من أيَّدَ نزول هذه الآية في النبى الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، "حاشاه"، ويستند إليهم أولئك الذين يذهبون مذهبهم فإن غيرهم الكثير من العلماء نفوا هذه الواقعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. منهم الآلوسي في "روح المعاني" الذي حكى عن القرطبي ذهابه إلى أنّ عبد الله بن أمّ مكتوم مدني، ولم يجتمع بالصناديد المذكورين في تلك الروايات من أهل مكّة، هذا مع أنّ أسانيدها غير تامّة ولا تخلو من طعن.

وقال الترمذي في سننه: «قال أبو عيسى: هذا حديث غريب»، وفي فتح القدير قال: قال ابن كثير: «فيه غرابة، وقد تكلم في إسناده».
الجريدة الرسمية