رئيس التحرير
عصام كامل

«بيتهوفن الصغير».. يوميات أصغر عازفة كمانجا في مصر (فيديو وصور)

فيتو

حين وطأت بقدميها الصغيرتين وحذائها الفضي اللامع، خشبة مسرح كنيسة جميع القديسين بحي الزمالك، هالها المشهد وتلفتت حولها، العشرات يصطفون أمامها فوق المقاعد يعلو ويتزايد تصفيقهم كلما هدأ إيقاعه، كانت هي مفاجأة الحفل وملكته بلا منازع، بجسدها الضئيل جدا أمسكت بحرفية شديدة "الكمانجا" أسندتها إلى كتفها، نفس عميق ونظرة أخرى للجمهور، وسرعان ما تحول الجسد كله لآلة "كمانجا" دبت فيها الروح، فراحت تتمايل يمينا ويسارا تتقلص عضلات ذراعيها مع كل إيقاع سريع تصدره مقطوعة "الفيفالدي"، في مهنية موسيقي لامع ربما جاوز الستين بقليل!، هكذا كانت الطفلة العازفة "نور محمد عبد الفتاح" 9 سنوات، في أهم حفلاتها والتي قدمتها في حي الزمالك.




سبق لنور أن أذهلت رواد مواقع التواصل الاجتماعي، حينما نشرت سيدة تدعى "أميرة مكاوي" مقطعا قصيرا لها لا يتعدى الدقيقة، بينما هي تقف وسط الفرقة التي تنتمي إليها تتمرن على عزف "الفيفالدي" تمهيدا للحفل، ونال الفيديو إعجاب الآلاف، فكان لنا مع نور جولة في مدرستها الموسيقية واستعداداتها للحفل الأهم في مسيرتها التي تخط بها السطور الأولى.



قديمًا كانوا يقولون إن "ابن الوز عوام"، وضروري أن يرث الابن من أبويه بعض الصفات بل والمهارات والمواهب في كثير من الأحيان، لكن في حالة نور التي نشأت في أسرة موسيقية من الطراز الأول، الأب عازف "تشيللو" والأم ناقدة موسيقية وعازفة "كمانجا"، الوضع اختلف كثيرا، تفوقت الابنة على أبويها.. باتت تقارع الموسيقيين العالميين ممن هم في مثل سنها أو أكبر بقليل، "نور مستعدة إنها تدخل مسابقات عالمية، كانت أصغر عازفة مصرية تقدم عزفا منفردا بالكمان في دار الأوبرا ومرة ثانية في المركز الثقافي الروسي، وإحنا بنؤهلها لتشترك في مسابقى كسارة البندق الروسية خلال السنتين القادمتين"، بهذه الكلمات تتحدث نهى والدة نور وأول من اكتشفت بذرة الموهبة لدى ابنتها حين كانت في الرابعة من عمرها.



لم تكن نور أتمت الأربع سنوات بعد، حينما كان جدها يصطحبها معه في سيارته وتجلس بجواره تبحث بشغف غير عادي عن الأسطوانات الكلاسيكية، بين "موتسارت وهايدين وبيتهوفن" كانت تجد راحتها ومآربها، "مكنتش زينا بتسمع أم كلثوم أو أي أغنية عادية، كانت دايما بتختار معزوفات عالمية كلاسيكية ودي كانت سبب رئيسي في تطور أدائها بالسرعة دي".

تعلقت نور بالمشهد الذي كان يتكرر أمامها كل يوم بينما كانت الأم تتدرب على عزف الكمانجا، ابتاعت لها آلة صغيرة تضاهي خاصتها: "كانت بتشوفني أعمل إيه وتقلدني بآلة الكمانجا الصغيرة لحد ما قررت ألحقها بمعهد الكونسرفتوار وخيرتها أي آلة تحب تعزف وكان اختيارها للكمانجا".



منذ ثلاث سنوات التحقت نور بالمعهد، أصبحت الآن في الصف الثالث "إعدادي موسيقى"، بالدرجات النهائية والتفوق غير المعتاد اجتازت السنوات الثلاث الأولى، تتلمذت على يد أستاذ والدتها، الأوزبكاستاني الثمانيني "مارليس يونسخان"، أصبح أباها الروحي ومثلها الأعلى في عالم الموسيقى، كل يوم في تمام الواحدة والنصف ظهرا، تتجه إلى حجرته الكائنة بالطابق الرابع في مبنى المعهد، يستقبلها بقبلة حانية فوق جبينها قائلا بالعربية غير المتقنة "نور حبيبي يالا نبدأ شغلنا".

وجد يونسخان الذي درس الموسيقى في "كونسرفتوار طشقند"، وحصل على الدكتوراه ودرس في عدد من الدول الأوروبية، لينتهي به المطاف منذ نحو عشرين عاما في مصر، في نور طفولته التي لم ينسها: "نور بتفكرني بنفسي وأنا في بداية حياتي كنت متقن للعزف وباعزف على الكمانجا بكل إحساسي كان كل جسدي بيتكلم موسيقى وهي كذلك". 

قد تطول مدة التدريب أو تقصر، تظل نور واقفة أمامه ناظرة إلى نوتة الموسيقى، موزعة انتباهها بينها وبين إيماءات أستاذها وتوجيهاته المتكررة، "نور لها مستقبل عظيم في عزف الفيولين موهبة فذة وهاتبهر العالم لما تكبر، نور بتدرس مستويات بيدرسها طلبة بخامسة وستة موسيقى هي قدرت في سنها ده تحققها وبكل حرفية وسهولة".



تنهي نور التمرينات لدى أستاذها الأوزبكستاني، ثم تدلف الحجرة المجاورة حيث ينتظر "رباعي الأوتار" فريقها الذي انضمت إليه منذ أكثر من عام. 

والدها "محمد عبد الفتاح" عازف التشيللو أحد أفراد الفرقة التي أسسها "خالد صالح" أحد الأساتذة بالمعهد ذاته: "الفرقة دي فيها عازفي الكمان والتشيللو كان هدفنا نوصل للشارع موسيقى الأوبرا ومتكنش مقتصرة على مسارح الأوبرا وطبقات معينة من الشعب فقط، شفت في نور موهبة رائعة وقلت دي هتكون فرصة لتشجيع المواهب الصغيرة والأطفال فضميتها للفرقة" يتحدث خالد.



أما والدها محمد فوجد في ذلك فرصة لا تعوض لابنته كي ينصت الجميع إلى موهبتها غير العادية، خاصة أن الحفل الذي أقيم على مسرح كنيسة جميع القديسين، والذي جاء بالتزامن مع مرور 50 عاما على رحيل عازف العود الشهير "نيقولا لطيف"، ويعد أول شرارة لإطلاق مبادرة تبناها "رباعي الأوتار" التي تأسست منذ خمس سنوات وأصبحت نور عضوة غير رسمية به منذ عام، تهتم بإبراز المواهب الصغيرة في مصر وإخراجها للنور، فتكون نور هي أول موهبة صغيرة وبذرة نجاح للمبادرة، خاصة بعد أن نالت إعجاب ممن حضروا الحفل سواء مصريين أو ذوي جنسيات متعددة، فما أن أنهت نور حفلتها في تمام الثامنة والنصف حتى امتلأت القاعة بالهتافات والصيحات المأخوذة بما قدمته هذه الطفلة ذات التسع سنوات.
الجريدة الرسمية