سيد القمني.. تاني
عاد الدكتور "سيد القمني" الذي اختفى وانزوى طويلا وصمت صمتا اختاره لنفسه، قبل أن يقدم اعتذارا عن أفكاره، ليطل علينا من جديد عبر حلقتين بثتهما فضائية "القاهرة والناس"، يومي الخميس والجمعة الماضيين، التي قدمته باعتباره مفكرا وسيكشف حقائق تغير نظرتنا للتاريخ.
أخطر ما فى الحلقتين، أن الرجل حاول إصدار أحكام يقينية في قضايا جدلية، وأسئلة معقدة لم يحسمها كل علماء التاريخ، وفشل حتى علماء المصريات والآثار في الاتفاق بشأنها على امتداد عمر البشرية مثل: من هو فرعون موسى؟، وهل فرعون شخص واحد أم اثنين؟، وقصة دخول وخروج اليهود من مصر؟، ومن هو حاكم مصر أثناء وجود سيدنا يوسف؟، ولماذا لم يتم العثور على أي أثر له في مصر رغم مكوثه فيها طويلا؟، ومن هم الهكسوس؟
لا يعنيني هنا الحديث عن الشبهات التي أثيرت حول درجة الدكتوراه، التي قيل إن الرجل اشتراها من جامعة جنوب كاليفورنيا، ولا أناقش موقفه من الإسلام ولا آراءه الغريبة، ومنها ما قاله في محاضرة ألقاها عام 2016، بمقر منظمة مدنية إنجليزية يطلق عليها "أدهوك"، عقب مغادرته مصر إلى لندن "بلدنا لم تعرف الحداثة إلا بعد أن دخلت فرنسا مصر، مصر لم تعرف يعني إيه سياسة وقانون ووطن إلا في وجود الاستعمار الأوروبي الإنجليزي في بلادنا، فالحل هو انغراس الحضارة الغربية في المنطقة".
وأكد القمني في تلك المحاضرة أنه يتمنى احتلال مصر من جانب الغرب قائلا: "نفسي في استعمار ييجي مصر، بس مفيش".
ونادرا ما أذهب لفضائية "القاهرة والناس" بفرعيها الأول والثاني إلا بالصدفة، أو لمشاهدة البرنامج المفيد الوحيد وهو "العباقرة"، لثلاثة أسباب، أولها أن صديقي الكاتب المبدع الدكتور ياسر ثابت يشارك في إعداد مادته العلمية، وثانيها إعجابي بالفكرة الأخلاقية للبرنامج وهي استثمار النبوغ الطلابي في تطوير نحو 24 مدرسة، بتكلفة 80 مليون جنيه، دفعهم البنك الأهلي في الموسمين الأول والثاني.
وثالثها إعجابي بطريقة تقديم الروائي عصام يوسف نجل الكاتب الراحل عبد التواب يوسف للبرنامج والمعلومات الغزيرة الواردة فيه، وأرى هذا البرنامج هو النقطة المضيئة الوحيدة في قناة لا تقدم شيئا مفيدا للمشاهد، ولا تملك خريطة برامجية واضحة، بل تعتمد على برنامجين أو ثلاثة تعيد بثهم مرتين أو ثلاثة في اليوم، مع عرض بعض الأفلام القديمة.
أحد تلك البرامج اسمه "نفسنة"، تتحدث فيه مقدماته وكأنهن يجلسن على "المصطبة"، ويتناسين أن هناك أسرا وعائلات تجلس أمام الشاشات، وقالت فيه إحدى الفنانات على الهواء مقولتها الشهيرة "البوس مهم جدا"، ونصحت فيه البنات: امشي بـ "صدرك" ولا يهمك خلي أنوثتك تبان، متمشيش قافلة أكتافك وذمة على صدرك، امشي منطلقة، فترد عليها فنانة أخرى "خلاص هسيبه مفتوح"، تقصد صدرها.
لست أنكر على الدكتور سيد القمني حقه في البحث والاجتهاد، خصوصا لو انحصر هذا الاجتهاد في قضايا تاريخية جدلية، ومن ينكر هذا الحق يمارس "المكارثية" ضد حرية البحث والاجتهاد، ولكني أتصور أن إطلالة الرجل المثير للجدل، بعد طول اختفاء وانعزال، على الشاشات من جديد قد تعيد إلى الأذهان، وتجدد فتاوى سابقة صدرت بحقه عندما كان يتحدث في قضايا دينية.
أنصح القمني بالاكتفاء بما قدمه من اجتهاد في التاريخ، وأن يعود لصمته ويتوقف عن الحديث مجددا في الدين منعا لاستفزاز الناس، وحتى لا يضع البنزين بجوار النار، فمصر الآن مشغولة بما هو أهم وأكبر، وأخطر بكثير من تلك المعارك الاستعراضية الهامشية التي يثيرها.