عِش نملة
بعض الذين عاشوا كالنملة لم يجدوا نصيبهم من السكر، ولم يهنأ أحد منهم بنظام وعدالة واستقرار مملكة النمل، التي تقوم على العمل الجماعي والحصة الثابتة لكل نملة من السكر، ومعظم الذين اتبعوا نظرية أعمل ميت لم تتغير حياتهم لأنهم بالفعل ساقطي قيد وفِي عداد الموتى-الأحياء-، لأنهم خارج كل الحسابات، وكل ما هنالك يتم استدعاؤهم عند الحاجة إليهم في الانتخابات والاستفتاءات الذي منه ثم يعودون لمقابرهم مرة أخرى..
وانظر إلى أي تشريفة لأي مسئول وتأمل حالة المرور بعد ذلك، فهناك عشرات الرتب من أجل تأمين مسئول واحد لا يعرفه أحد، بينما المرور متوقف من الفوضى والعشوائية ولا يوجد شرطي أو أمين شرطة واحد لفك الاشتباكات المرورية، بينما يتم فضها في ثوان إذا مر مسئول..
وقس على ذلك كل شيء حولنا، فالناس ضيوف شرف، والأمة مجرد شاهد زور، والفرد مفعول به، ولا يعرف معنى الفعل سوى في طاعة الأوامر، ولأن الغجرية ست جيرانها ساءت الحال حتى أصبحت متابعة الشأن العام رفاهية لا يقدر عليها بسطاء الناس، ورفاهية لا يستحقها المكروب ولا تلائم وجعه، خاصة أن المشهد العام يبعث على السخرية واللامبالاة، والأمر ليس لأهل السلطة، لكن للعوام أيضا، فهم يحبون الشخص الطيب لكن لا يعطونه حقه، وفِي الوقت نفسه لا يحبون الشخص الرديء لكنهم يحسبون له ألف حساب..
ولذلك انسحب الكثيرون، لأن الزمان ليس زمانهم، وربما لم يعد المكان أيضا مناسبا لهم، حتى إن هناك من لا يعرف اسم رئيس الوزراء، ولا رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان، ولا رئيس البرلمان نفسه، ولا زعيم الأغلبية الشيخ الدكتور القصبي شيخ مشايخ الطرق الصوفية، ولا رضوى الشربيني بتاع لا مؤاخذة العلاقات الزوجية، ولا ريهام سعيد بتاع صبايا الجن والعفاريت، وبالمرة لا يعرفون محمد صلاح فقد قاطعوا التليفزيون والصحف وليس لديهم حسابات على تويتر أو فيس بوك، ولا يشاهدون صور النجوم على إنستجرام..
وهؤلاء لا يذهبون لانتخابات النقابات أو النوادي أو اتحادات الملاك، وبالتالي أفرزت الانتخابات أسوأ ما في هذا البلد، وتمضي حياتهم رتيبة من المكتب للبيت للنادي للمقهى للكنبة أمام محطات الأغاني، حتى الصلاة أصبحت في المنزل ولا يذهبون للمسجد إلا يوم الجمعة فقط، وهؤلاء لم يعد أحد منهم يصدق ما يقال في السياسة أو الاقتصاد أو البرلمان أو المسجد أو الكنيسة..
هناك لغتان الأولى أمام الشاشات والأخرى على المقاهي وفِي الكواليس، بل إن هؤلاء المعتزلين يترجمون التصريحات الرسمية بالعكس ولديهم دلائل تؤكد وجهة نظرهم ويقولون إن كل رهاناتهم كانت خاطئة، وإنهم كانوا مجرد مشاهدين في مسرحية عبثية مارس السياسيون فيها أدوارهم ببراعة، ويضربون أمثلة لحال التعليم في مصر..
فكل وزير قال إنه سيطور التعليم ويضع سياسة لا تتغير بتغير الوزير ومع ذلك تغيرت السياسة بتغير الوزير، وكل رئيس قال في بداية حكمه إنه تسلم البلد خرابة رغم أن الرئيس الذي سبقه كان يقول إنه بنى مصر وحقق طفرة وكانت كل أفعاله وأقواله تاريخية على وصف الصحف له، فلماذا تريد السلطة من الناس أن يصدقوها وهم لم ينسوا بعد أقوال من سبقوهم، وليس هناك إحساس مدمر يضاهي إحساس الناس بالخديعة..
ذلك أن الخيبة التي تصيبهم تخلق عند الأسوياء منهم مثل حالات الاعتزال السابقة.. بينما تخلق عند البعض إحساسا بالهزيمة والنزعات العدوانية تجاه الوطن والأمة، ولذلك راحت الطبقة الثرية الجديدة تنعزل في الكمبوند أو الجيتو وبالتالي أصبحت هناك أندية خاصة وشواطئ خاصة ومدارس خاصة وجامعات خاصة.. حتى بات الوطن أوطان والأمة أمّم وكل منهم مكبر دماغه ومعتزل الآخرين في جيتو خاص به، ظنا منه أنه سيأكل السكر إذا عاش نملة سواء في المنتجع أو على الكنبة.