ليلة رحيل جدي
كان جدي، رحمه الله، بحارًا اعتاد الغياب لشهور يقضيها على ظهر السفن التجارية قبل أن يعود لعائلتنا ليقضي استراحة محارب تمهيدًا لسفر جديد.. عودته كانت تعني المزيد من الهدايا والحكايات التي يرويها عما رآه.
لصغر سني اختلطت الحقيقة الجافة بالخيال الملهم.. الواقع الرمادي بالأسطورة الملونة.. لذا كنت أحيانًا أراه متصديًا لعصيان كالذي حدث على السفينة بونتي الشهيرة.. متخيلًا مشاعر الثورة ممزوجة بمخاطر البحر، حماس الرغبة في دفع الظلم يتصادم مع الرغبة في الاستقرار والخوف من المجهول.. وفي مرات أخرى أتخيله مغامرًا يكتشف طريقًا جديدًا للملاحة مثلما انطلق فاسكو دي جاما في رحلته محطمًا دولة المماليك.
كبرت قليلًا منتظرًا عودته التي غابت حتى عرفت أن ارتداء جدتي للون الأسود بشكل مستمر لم يكن اختيارًا أو تفضيلًا لكنني تجاهلت أحاديثهم عن رحيله، واندفعت في القراءة عن مغامرات جيمس كوك وماجلان وكريستوفر كولومبس لعلني أقرأ أخباره وأطمئن عليه.
خشيت أن تكون سفينته قد ضلت الطريق لجزيرة الدكتور مورو لتصادفه الحيوانات التي صنعها، واطمئن قلبي على أحواله عندما عرفت أن "روبنسون كروزو" عاش وحده لسنوات في جزيرة منعزلة بعد تحطم سفينته وموت جميع الركاب لكنه استطاع العودة في النهاية.
مرت سنوات أخرى ولم يعد.. كانت أمطار الإسكندرية تزداد هطولًا وسط شتاء ينذر بالعواصف.. جلست مكاني مستمعًا للرعد، بينما طل البرق وسط غيمة السماء، وتكاثرت المياه فوق النوافذ المغلقة في فصل تكدس بطلاب أنهكهم البرد في انتظار انطلاق جرس الحصة الأخيرة للمغادرة.. كانت صفوف الدراسة تزعجني أكثر مما تربكني نظرات التوعد من المدير الذي يطالبني بالمصروفات المتأخرة.
تجاهلت تحذيرات المدرس الذي طالبني بالعودة لمكاني والاستماع للدرس، ولم أهتم كذلك بصيحات الاستهجان من زملائي الذين تعجبوا من مروري وسطهم ثم وقوفي على طاولة أحدهم وفتح النافذة التي أتت برياح قوية بعثرت أوراق الدرس ثقيلة الحجم، سخيفة المضمون التي تحملنا عناء حملها يوميًا.
امتلأ الفصل بفوضى ضحكات التلاميذ وصرخات المدرس بينما كنت أنا أيضًا أصرخ عبر النافذة: جدي استرح في جزيرتك مطمئنًا ولا تأتي الآن، فالجو سيئ والأحوال هنا ليست على ما يرام.