عيار ناري.. مجتمع في المشرحة!
حينما يتفق مجتمع كامل على أن طمس الحقيقة هو الحل، وأن اختلاق كذبة صغيرة ثم تزيينها وتدعيمها بالأدلة والبراهين المصطنعة، ووضعها داخل برواز أنيق، هو الوضع الذي يحقق مصالح كل الأطراف، عندها يتواطأ الجميع، حتى الذين حاولوا في البداية تحطيم البرواز وكشف حقيقة الصورة المزيفة، يكتشفون أنهم كانوا على خطأ، فيثوبوا إلى رشدهم، ويشاركوا "عقلاء مجتمعهم"، الترويج للكذبة نفسها، وينضموا معهم في صلاة واحدة، تقدس الوهم نفسه، وتعبد الصنم نفسه!
طرح مؤلم يقدمه فيلم "عيار ناري"، للكاتب هيثم دبور والمخرج كريم الشناوي، لن تنجو أنت –كمشاهد– من قسوته ووجعه، ليس لأن الفيلم يكشف عورات المجتمع المحيط بك فحسب، لكن لأنه يدفعك إلى محاكمة ذاتك، وعلى قدر شفافية ونزاهة محكمتك، سوف تكتشف أنك مدان بالتهمة نفسها، وأنك شاركت في التضليل، والكذب، والتدليس، عبدت الصنم نفسه، وأديت خاشعا الصلاة الباطلة نفسها..
طبيب شرعي، سكِّير، يعيش في عزلة حتى عن أسرته وأبيه الوزير السابق المتهم في قضية فساد، يُشرح جثة شاب لقي حتفه في اشتباكات بين الأمن ومتظاهرين ضمن أحداث ما بعد ثورة يناير 2011، يكتشف الطبيب أن الشاب قُتل برصاصة من مسافة قريبة، ومن شخص يقف في مواجهته، وليس قناصا من رجال الأمن، ومن ثم يكتب الطبيب تقريرا ينزع عن الشاب لقب الشهيد، فيدخل في مواجهة مع عدة أطراف تُصر على العكس..
وكل طرف لديه أسبابه، مديرة مصلحة الطب الشرعي لكي تخفي الفساد الذي ينخر في المؤسسة التي تديرها، وأسرة الشاب القتيل لتحصل على المزايا المادية والأدبية، والصحفية الشابة لتحصل على سبق صحفي يعزز مكانتها في جريدتها، شباب الثورة ليثبتوا تجاوزات رجال الأمن، كل الأطراف من مصلحتها أن يتحول القتيل إلى شهيد، إلا الطبيب الشاب الذي يقف في الخندق المقابل، محاولا إثبات صحة تقريره، حتى لا يفصل من عمله!
لا يمكن اعتبار الفيلم تأريخا لثورة يناير، الذين اعتبروه محاولة لإهانة شهداء الثورة لم يفهموا رسالته، بل ربما لم يشاهدوه من الأصل، ولعل أبلغ دليل على ذلك، أن أحداث الفيلم تتعارض تماما مع الأحداث الحقيقية في تلك الفترة، حيث كانت الدولة بكل أجهزتها آنذاك تؤكد أن وزارة الداخلية ليس لديها قناصة يصطادون المتظاهرين من فوق الأسطح، وفي المقابل يحاول المتظاهرون تقديم الأدلة التي تدينها، بينما قصة الفيلم تروي العكس، ومن وجهة نظري، لم تكن ثورة يناير سوى مدخلا لطرح رؤية المؤلف والمخرج، باعتبارها حدثا كبيرا، لا بد أن يكون بطبيعة الحال، كاشفا لتناقضات المجتمع الذي وقع فيه..
تستطيع أن تلمس التواطأ على التدليس عند من يعتبرون ثورة يناير مؤامرة، يخونون كل من شارك فيها، ويحملونها مسئولية كل المشكلات التي تعرضت لها البلاد منذ قيام الثورة حتى الآن، ويمكنك أن تلمس التواطؤ نفسه عند من يقدسون الثورة باعتبارها فعلا نبيلا، كل من شاركوا فيه كانوا ملائكة ذوي أجنحة، ليس بينهم بلطجي، أو مخرب، أو حتى صاحب مصلحة..
ولو فتشت في ذاكرتك ستجد من المواقف المشابهة الكثير، كم من صور وضعناها داخل براويز أنيقة، واتفقنا جميعا على أن نحييها كل صباح، وننحني أمامها كل مساء، ونحن نعرف أن ثمة مصلحة لنا في ذلك، ليس شرطا أن تكون المصلحة مباشرة، أو مادية، يكفي فقط لكي يسجد البعض أمام صور الطغاة، أن تشعر قسوة الطاغية هؤلاء بالأمان، وتمنحهم الثقة في النصر على أعداء افتراضيين في خيالهم، تماما مثلما فعل أحمد أبو المحاسن بطل فيلم "سوق المتعة" للمبدع وحيد حامد، عندما بنى بأمواله سجنًا سلم قيادته إلى مأمور السجن الذي قضى فيه 20 عاما، وكان صوته يبث الرعب في قلوب السجناء، فيشعر هو بالأمان!
أبطال فيلم "عيار ناري"، اتفقوا على تحويل "علاء" الولد العاق الفاشل، من قتيل إلى شهيد، وهم منا ونحن منهم، لا يختلفون عنا ولا نختلف عنهم، فنحن الذين حولنا الفاشلين إلى رموز تحتل صورهم كتب التاريخ، والطغاة إلى زعماء نضع أكاليل الزهور على قبورهم كل عام، الوطنيون إلى خونة وعملاء، المفكرون والفلاسفة إلى كفار وزنادقة، اتفقنا جميعا على الكذبة، حتى صدقناها، وقدسناها، ولم يعد بإمكان أي شخص أن يشكك فيها، لأن تشكيكه أصبح في عرفنا، محاولة لهدم القيم النبيلة، وتكدير السلم الاجتماعي!
شكرا لصناع فيلم "عيار ناري"، الذين ندفع لهم ثمن تذكرة السينما، لكي يحاكموننا!