والآن يا ريس.. ماذا أنت فاعل بالـ٥٤ مليار جنيه ؟
تعالوا نحسبها كما حسبناها زمان، أيام قصة الـ٧٠ مليارا، التي كانت للرئيس الأسبق حسني مبارك، اتهاما أطلقه عضو الكونجرس الأمريكي في إطار تسونامي الأكاذيب والشائعات التي أغرقت الجميع، الشرفاء قبل اللصوص!
لكن المبلغ هذه المرة ليس وهما، ولا إحدى أدوات التسخيط والتثوير وإفشاء حال من التنازع الوطني على ثروة مستحقة أو غير مستحقة، بل هو في الواقع مبلغ حقيقي أعلنت عنه الحكومة نفسها وحددته، إنه ٢٥٠ مليون دولار.
٢٥٠ مليون ورقة خصراء ساحرة متناسلة، متكاثرة إذا لقحت بالجنيه البني الهزيل، أفرخت وتضاعفت ١٨ مرة!
هذا خبر حقيقي، أسعد الشعب كما لم يسعده خبر طيب منذ وقت بعيد، وصحيح أن المزاج العام الذي نزل فيه الخبر السعيد هو مزاج كروي ملئ بالسباب والغل وذم الأعراض والمعايرة وفضح الجذور، لكن الناس لم تلبث أن انتبهت إلى أن الحكومة لن تعود تتعلل بالفقر وبقلة الموارد، ففي أول كل شهر ستكون وفرت ٢٥٠ مليون دولار، اضربها في ١٨ تقريبا، ستعطيك المبلغ التالي: ٤مليار و٥٠٠ مليون جنيه، اضربها في ١٢ شهرا ستحصل على ٥٤ مليار جنيه!
ده مبلغ عال ماهوش بطال، معانا ريـال معانا ريـال، أغنية فيروز وأنور وجدي، الشهيرة في فيلم دهب، حملت نسائم تفاؤل لأنهما حصلا على ريـال، ووقتها كان له شنة ورنة، واليوم هذه المليارات التي توفرت للحكومة، هي رئات كبيرة يمكنها أن تتنفس منها، وإن تخفف قبضتها عن أعصاب وقلوب وجيوب الشعب، بالطبع المبلغ لم يتحقق دخلا، أو إضافة لكنه تحقق وفرا، بسبب الاكتفاء الذاتي من إنتاج الغاز، وإعلان وزير البترول طارق الملا وقف استيراد آخر شحنات منه.
مع بداية العام المقبل سنتمكن من بيع الغاز للغير، أي تصديره والتصدير معناه دولارات تدخل الخزينة العامة للدولة، ونتوقع أن ترفع الحكومة يدها عن أعناق الناس.
هكذا فكر كل مصري هذه الآيام، بعد الإعلان عن توفير مبلغ بحجم ٥٤ مليار جنيه، أي ثلاثة مليارات دولار.
أكاد أشعر ككاتب، أن الرئيس عبد الفتاح السيسي قاعد يحسبها مثل أي رب أسرة، منتحيا جانبا وأمامه الورقة والقلم، أو الألة الحاسبة لأنه يحب التكنولوجيا، وعمال يضرب ويجمع، ويحول الدولارات إلى جنيهات، ومع فورة البهجة تحدث للعقل الإنساني نقلة في التفكير، فيرفع سقف التوقعات، ويضيف المبالغ التي لم يبع بها بعد الغاز الجديد، والحقول الجديدة!
في حال رؤساء الدول العقلاء، لا يحدث هذا، لأن البناء على الحقائق يحمي من فيضان الأوهام، وتصدع الأحلام وثوران الناس المحبطين.
الرئيس إذن يحسبها جيدا وبشكل واقعي: لديه الآن ٥٤ مليار جنيه توفرت نتيجة وقف شراء الغاز من الخارج، وبعد شهور سأبيع الفائض من إنتاج حقل ظهر وغيره، ففيم سننفق هذه المبالغ؟ هل ننفقها في إغراق البطون ومواسير الصرف، لنصنع حالة بهجة قومية عامة؟ يفعل ذلك من طرأت عليه ثروة بددها في الأكل والشرب والسهر والنساء، وتروح السكرة وتيجي الفكرة، ويعربد الندم، ويقهقه الشيطان ساخرا من سوء التفكير والسلوك، وأنك سمعت نصائحه السوداء!
هل ينفقها في شق المزيد من الطرق ومشروعات بنية أساسية؟
نعم مطلوب إنقاذ شبكات الطرق الداخلية وبين المحافظات، ومطلوب فتح مصانع، ومطلوب ومطلوب ومطلوب، وقد يكون مجديا زيادة اعتمادات الصحة، وتعزيز حملة الفحص العام لـ٥٠ مليون مواطن لعلاج فيروس سي، وتحديد خريطة الأمراض المصرية السائدة، ومطلوب اعتمادات أكثر للتعليم لفتح فصول جديدة تقلل من الكثافة المخيفة في الفصول.
سنفعل هذا كله، وهو ضروري، لكن سيبقى العجز في الموازنة العامة للدولة مخيفا، ٤٣٨ مليارا ونصف المليار، ولابد من النزول به والخصم منه، وإنهائه، ولو بجرعات سداد ثابتة أو متصاعدة حسب الإيرادات المتوقعة، لاحقا من تصدير الغاز المصري أو الإسرائيلي أو القبرصي من مصر.
أتصور أيضا أن لا يغيب بحال عن دكتور محمد معيط وزير المالية، أن الدخول الحالية نتيجة الوفر أو الدخول القادمة نتيجة التصدير والخدمات المرتبطة بالتسييل والشحن والضخ، ستكون أدوات فعالة في خطة الحكومة للسيطرة على الدين العام، الذي تجاوز ثلاثة تريليونات و٤١٤ مليار جنيه وأكثر، والدين الخارجي نحو ٨٢ مليار دولار!
على أية حال، فإن السماء ستمطر وشيكا على مصر، لكن المطر ليس ذهبا، بل بشارة لابد من اقترانها بالعمل وحسن إدارة الرزق الجديد وتنميته وتشغيله.