يوم الدين.. وطن المنبوذين !
عندما تخرج من السينما بعد مشاهدة فيلم "يوم الدين"، سوف تري خريطة مصر بشكل مختلف، سوف تكتشف أن المؤلف والمخرج "أبوبكر شوقي"، قد مسح من خريطة الوطن، النهر الخالد، والصحراء الشاسعة، ومساحات الخضرة، والجبال والمرتفعات، واستبدلها بمجموعة من المستعمرات، علق على واحدة منها فقط، لافتة مكتوبا عليها "مستعمرة الجزام"، وترك باقي المستعمرات دون أن يحددها بأسوار، أو لافتات إرشادية، لتكتشفها بخيالك، وعمق قراءتك للفيلم..
وأولي هذه المستعمرات، مستعمرة المسيحيين، التي ينتمي إليها- في الأصل- العم بشاي بطل الفيلم، وهي مستعمرة معروفة لنا جميعا، محاطة بأسوار معنوية، قد يقيمها المسيحيون أنفسهم، التماسا للأمان، وقد يبنيها المجتمع حولهم، باعتبار قطاعات كبيرة من هذا المجتمع– شئنا أم أبينا – مازالت تتعامل مع المسيحي باعتباره مواطنا من الدرجة الثانية..
هناك مستعمرة التطرف المنبوذة، التي يلتقي العم بشاي واحدا من أبنائها مصادفة في قسم الشرطة، وهي مستعمرة لا تعترف إلا بمن يحملون جنسيتها، وتسقط كل الحقوق عمن يخالفونها، سواء من المسيحيين أو المسلمين، فنري بشاي "المجزوم"، وقد وضعت يده في كلبش واحد مع الشاب "المتطرف"، يهربان معا من قسم الشرطة، فيعود المتطرف إلى أهل مستعمرته من الملتحين ذوي الجلاليب البيضاء القصيرة، ويواصل بشاي رحلته مدفوعا بالحنين إلى أهله في مستعمرة المسيحيين بالصعيد..
يعاني بشاي من نظرات الناس المشمئزة والخائفة، فيصنع له رفيقه في الرحلة الطفل "أوباما" قبعة عليها قطعة قماش تخفي وجهه المشوه، ويجلس في القطار إلى جانب سيدة تخفي هي الأخري وجهها بالنقاب، فكلاهما سيكون مطمئنا إذا ما توقف الناس عن النظر إلى وجهه، بشاي بسبب ملامحه المشوهة، والسيدة باعتبار وجهها عورة، تتحمل هي وزر كل نظرة إليها، وفقا لمعتقدات مستعمرة التطرف التي تنتمي إليها..
في الرحلة الطويلة والغريبة، يدخل بشاي مستعمرة أخرى مملوكة للمتسولين، ومقرها أسفل الكوبري، أبناؤها ما بين فقير أو عاجز فقد قدميه، وهم رغم فقرهم وعجزهم، يفرضون سطوتهم على مناطق يعتبرونها ملكا لهم، ويمنعنون أي شخص من الاقتراب منها، لكن ملامح بشاي وفقره، تجعله الأقرب إليهم، فيرفضون التنازل له عن موقع يمارس فيه التسول، لكنهم يساعدونه، ويضيفونه، ويوفرون له سيارة يستقلها إلى قرية أهله في قنا..
في قسم الشرطة، نستطيع أن نلمس أسوارا غير مرئية، لمستعمرة السلطة، التي تفرض نفوذها على الجميع، فلا تفرق بين مريض الجزام المشتبه به لأنه لا يملك إثبات شخصية، والمتطرف الذي يصب لعناته على الجميع، وتضع أيديهما في قيد حديدي واحد، وتأمر بحبسهما في سجن واحد..
بين هذه المستعمرات، يتحرك أبطال الفيلم، الذين اختار المخرج غالبيتهم من غير الممثلين المحترفين، بمن فيهم البطل راضي جمال، مريض الجزام المتعافي في الواقع، نرى طوال الفيلم تفاصيل رحلة الرجل الباحث عن جذوره، حيث يصطدم بشاي "المشوه" في طريقه، بمشوهين من نوع آخر، عدد من الشباب البذيء الذي يسخر منه، الكمسري الذي يعتدي عليه ويطرده من القطار، لأنه لا يملك ثمن التذكرة، لصوص يأخذون نقوده القليلة ويحاولون سرقة حماره..
سوف تشعر مع أحداث الفيلم، أن بشاي صاحب الوجه المشوه، هو الأكثر رقة وإنسانية وعطاءً، مقارنة بأبناء المستعمرات الأخرى الذين أصابت التشوهات قلوبهم فصارت أكثر قسوة، وعقولهم فصارت أكثر غباء، سوف تكره أشخاصا من لحم ودم، بينما تحب حمارا هو "حربي" رفيق رحلة بشاي الطويلة، لتنتهي الرحلة بين يدي الأب، الذي أودع بشاي طفلا في مستعمرة الجزام وتركه دون أن يعود، سوف تتوقع في مشهد النهاية أن يبكي الأب نادما على ما فعله بالابن، لكن الرجل يبدو مقتنعا تماما بصحة تصرفه، عندما ترك ابنه بين أناس تشبهه، حتى يستطيع الحياة، وينتهي الفيلم على بشاي عائدا إلى مستعمرة الجزام، ليعيش بين نزلائها المنبوذين، تاركا المستعمرات الأخرى لأهلها المنبوذين بأشكال أخرى ولأسباب مختلفة!
قصة جديدة، ومنطقة تدخلها السينما المصرية لأول مرة، لكن ثمة عيوبا قللت من المستوي الفني للفيلم، أولها الأداء الباهت للممثلين، سواء المحترفين أو غيرهم، باستثناء راضي جمال الذي بدا طبيعيا ومقنعا جدا في أغلب المشاهد، وربما يكون قد خضع لتدريب مكثف من مخرج الفيلم، والطفل أحمد عبدالحافظ، الذي أسر قلوب مشاهدي الفيلم بوجهه الأسمر البريء، رغم بعض الهنات في أدائه، أما بقية الممثلين فجاء أداؤهم مسرحيا مبالغا فيه، في كثير من المشاهد، بحيث بدا الأمر وكأننا أمام فيلم لمجموعة من الهواة، أهدرت جهود المخرج وفريق الفيلم المحترف..
الأمر الثاني هو المباشرة الشديدة في بعض جمل الحوار، رغم عمق القضية التي يطرحها الفيلم..
في النهاية نستطيع أن نقول إن فيلم يوم الدين، أكبر كثيرا من تصنيفه كفيلم إنساني يحكي قصة مريض جزام، لكنه أصغر من أن نعتبره فيلما عظيما، باعتبار أن عظمة الفيلم تقاس بمدى اكتمال كل عناصره الفنية..