الجهل المقدس
هؤلاء مِن الذين قال عنهم طه حسين «رضوا بجهلهم ورضي جهلهم بهم، من القطيع الذين يوفرون عقولهم من التفكير»، وبالتالي هم أسهل الفئات المرشحة لبرمجة عقولهم كيفما شاء الآخرون، هم كالأجهزة وإرادتهم رهينة لمن بيده الريموت كنترول، وكم من كفيف بصير الفؤاد وكم من فؤاد كفيف البصر، كما قال أبو العتاهية، ذلك أن كثيرًا من الظواهر تمر علينا قد نَنخرط فيها بتلقائية دون أن نشعر وتستنزف دون أن تدري طاقتنا في دواماتها التافهة، ولا تتوقف عند معناها ومَغزاها ودلالاتها رغم أن ما وراءها من التفاصيل ما يمكن أن يفضي إلى مدونة تسجل فيها أمراضنا.
وقد كان شعار «الشعب يريد» الذي رفعه ميدان التحرير وردده البعض ابتذالا لإدارة الأمة من أقلية نصبت نفسها متحدثة باسم الشعب، وهي في الحقيقة مجرد شعار يلخص كيفية إدارة برمجة العقول وفق نظريات يتم تصنيعها في غرف المخابرات المظلمة، وكذلك مسمى (المجتمع المدني) وهو المصطلح الذي ابتكرته المخابرات الأمريكية بعد فضيحتها في قضية إيران "كونترا جيت"، ورأت أن تكلفة اللعب المباشر كبير فراحت تدرس حتى اهتدت إلى تمويل منظمات وجماعات يقومون باللعب والتأمر بالنيابة عنها..
فكانت أن نشرت ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني، ولزمن طويل ظلت الآلة الإعلامية تنشر ثقافة تلك المنظمات حتى إذا وقعت الواقعة فيما عرف بالربيع العربي أسفرت عن وجهها القبيح، وبدا كما لو أن بعض هذه المنظمات أعدى أعداء الأمة، وراح بعضها يستعدي على المؤسسات الوطنية كالجيش والشرطة، ونصبوا من أنفسهم الوكلاء عن الأمة، وكانت لقاءاتهم مع الدبلوماسيين في الفنادق والسفارات تتم دون أي حياء وطني..
وللأسف ظلت تلك المنظمات كعبة لبعض النخبة يدافعون عنها، الأمر الذي منحها شرعية عند من لا يستخدمون عقولهم، ومن يدقق في وظائف وتقارير المؤسسات الدولية المعنية بالاقتصاد يكتشف الزيف والجهل المقدس، ذلك أن اللعبة معروفة ومحفوظة منذ تأسيس النظام المالي العالمي.. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. بمؤسسات بريتون وودز ووكالات التصنيف المسيس لخدمة شركات استشارات عالمية..
حيث تدعم تلك الشركات الحكومات مشاريع للنمو مزيفة بأرقام كاذبة، ثم تقدم توصيات للبنك الدولي لإمداد هذه الحكومات بالقروض اللازمة، أي إنهم يعملون محللين للمؤسسات المالية الدولية، وكل التقارير الوردية التي تصدرها ما هي إلا مخدر للشعوب الغارقة في الجهل المقدس، والأمر نفسه لهؤلاء الذين يخدعون أنفسهم ويراهنون على أن واشنطن يمكن أن تكون وسيطا نزيها في عملية السلام في الشرق الأوسط..
ومع كل انتخابات تتجدد الرهانات على ساكن البيت الأبيض الجديد ظنا منهم أنها بلد الرئيس وليس دولة المؤسسات التي يصبح الرئيس فيها جزءًا من المنظومة وليس المنظومة كلها.. وحتى الآن لا نريد أن نستوعب أن في مجال العلاقات الدولية لا توجد جدعنة ولا خدمات مجانية لكنه الجهل المقدس الذي نتوارثه جميعا.
ورغم أن العالم يتغير من حولنا لا نزال نقف عند القرن الماضي، حيث تحتل الآن تسع شركات تكنولوجية من بين أكبر عشر شركات في العالم، بينما كانت المقدمة لشركات النفط من عشرين سنة وقيمة شركة تكنولوجية واحدة تريليون دولار أكبر من ميزانية عشر دول بالمنطقة.
ويمكن القياس على ذلك معظم الصخب على مواقع التواصل الاجتماعي، كما حدث مع الطفل مهرب بورسعيد الذي تم تصنيعه بحماقة مذيعة، وتعاطف الجميع معه لتبرير التهريب دون أن يسأل أحد منهم نفسه لو تحرش أحد في الشارع بزوجته أو أمه فيمكن التبرير، لأنه تأخر في الزواج لتدني الحالة الاقتصادية، أي إنهم يبحثون عن المبررات للأخطاء بما يعني أن هؤلاء في انتظار فرصة لارتكاب الخطأ، والمبرر جاهز وحاضر وفق قانون (معلهش)