كيف يمكن استتابة «الهجمة المرتدة» يا مولانا؟!
كثيرٌ من المراقبينَ والمتابعينَ والمهتمينَ بالشأنِ العام، كانوا يعوِّلون على شبكةِ "القرآن الكريم" في الاضطلاع بدورٍ مُهمٍ ومؤثرٍ فيما يسمى "تجديد الخطاب الديني"، لكنَّ القائمينَ على أمرها خيَّبوا ظنَّ الجميع، بدتْ الشبكةُ، ذاتُ الأربعةِ والخمسينَ عامًا، خاملة مُتكاسلة متخاذلة، وكأنَّ سهامَ الشيخوخةِ أصابتْ قلبَها، وسكنتْ رأسَها.
دخلتْ المحطةُ، التي كانتْ ملءَ السمع والبصر، أعوامًا وراءَ أعوامٍ، نفقًا مُظلمًا، دخلتْه بكامل إرادتها، وارتضتْ لنفسها الانطفاءَ بعد فتراتٍ منْ التوهج والانتشار، العالمونَ ببواطن الأمور يؤكدونَ أنَّ الإذاعةَ مخطوفةٌ لمصلحةِ رئيسِها الحالي، ويستدلونَ على كلامِهم بسيطرتِه على عددٍ كبيرٍ منْ البرامج التي لا تختلفُ في تفاصيلِها ومُحتواها عما كنَّا نقدمُه صِغارًا في الإذاعةِ المدرسيةِ.
ولمْ يكتفِ بذلك، بل ألغى برامجَ مُتميزةً، وأطاح بأصحابِها، لينفردَ وحيدًا بالميكروفون، الرئيسُ الحالي الهابطُ بـ"البراشوت" على شبكةِ "القرآن الكريم" منْ شبكةِ "البرنامج العام"، يتجاهلُ الانتقاداتِ التي تترى على أداءِ الإذاعةِ منذُ أنْ تولى أمرَها، ويزعمُ أن المحطة في عهدِه تقدمُ برامجَ مُتطورة، تواكبُ "الرغبة الرسميَّة" في تجديدِ الخطابِ الديني.
وهذا كلامٌ يجافي الواقعَ، ولا يختلفُ كثيرًا عن تصريحاتِ وزير التربيةِ والتعليم والتعليم الفنىِّ الذي كانَ يبشرُنا بمنظومةٍ تعليميةٍ عالميةٍ، قبلَ أنْ تكشفَ الأيامُ الأولى من الموسم الدراسي الجديد عنْ وضعٍ مأساوىٍّ لن ينتهي قريبًا.
"الأستاذ" الذي يتحدثُ عنْ "تجديدٍ وتطويرٍ"، هو نفسُه الذي يُقدمُ فتاوى ساذجةً في برامجِه، فتاوى تخاصمُ الواقعَ، وتثيرُ السخرية، وتنتزعُ الضحكاتِ، وتخصمُ منْ رصيدِ الإذاعةِ الذي تراكمَ خلالَ أكثرَ منْ خمسةِ عقودٍ، عبرَ "رجالٍ صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه".
ولم يتبقَ منْ أسئلةٍ ساذجةٍ يطرحُها في برامجِه سوى أنْ يسألَ ضيوفَه: هلْ الهجمةُ "المُرتدة" في ملاعب كرة القدم "كافرة"، وإذا كانتْ "كافرة"، فكيف يمكنُ "استتابتُها"، وهل تهمةُ "الكفر"، في هذه الحالةِ، تشملُ اللاعبَ الذي بدأ الهجمةَ فقط، أمْ كلَّ منْ شاركَ فيها، بمنْ فيهم المدربُ ومعاونوه؟!
الأمرُ جدُّ خطير، لا موضعَ فيه لهزْلٍ، إنَّ حزمة البرامج التي يقدمُها رئيسُ الشبكةِ، وغيرَها منْ البرامج التي يتم تقديمُها على مدار الساعة، تنمُّ عنْ فكرٍ سقيمٍ عاجزٍ مُتحجرٍ مُنفِّرٍ، وتؤكدُ أنها تعيشُ في جزيرةٍ مُنعزلةٍ أو برج عاجىٍّ، الجمودُ الذي يعترى خطابَ إذاعة "القرآن الكريم" يجبُ أنْ يتمَّ تجفيفُ منابعِه فورًا، كما يجبُ تحريرُها ممن أدخلوها النفقَ المُظلمَ، لأنهم يبدو أنهم أقسموا على ألا يتركوها إلا جثةً هامدةً.
شبكةُ "القرآن الكريم".. يُنظرُ إليها باعتبارها أكثرَ أدواتِ تجديدِ الخطابِ الديني فعاليةً وإنجازًا لشهرتها وانتشارها في عموم مصرَ، لكنها خرجتْ من السباق مبكرًا، وتحولتْ إلى ما يُشبهُ إذاعةً مدرسيةً، تقدمُ برامجَ نمطية وأداءً نمطيًا وتلاواتٍ نمطيةً منْ خلالِ مُذيعينَ ومُعدينَ نمطيينَ.
إنَّ "الصمتَ الرسميَّ" على هذا التردِّي في أداء شبكة "القرآن الكريم"، مُثيرٌ للجدل والريبة والتساؤل، ولا أظنه "استحسانًا أو قبولًا" لكنه قد يكونُ "يأسًا واستسلامًا"، أو "هدوءًا يسبقُ العاصفة"، وأتمنى أنْ تكونَ الأخيرةَ.
لقدْ آنَ الأوانُ لتحرير الشبكةِ الأشهر والأهمِّ في منظومة الإعلام المصري من جميع مظاهر النمطية والسلبية، وإعادةِ إحيائها عبرَ كفاءاتٍ قادرةٍ على الابتكاِر والتجويدِ والتطوير الحقيقي، إنَّ الدورَ المنوطَ بشبكة "القرآن الكريم" ليسَ دينيًا فحسبْ، لكنه أخلاقىٌّ واجتماعىٌّ ونفسىٌّ بامتيازٍ، في ظلِّ تراجع المصريين في جميع التصنيفات الأخلاقيةِ على مستوى العالم، وإجمالًا..
إذا صلحُتْ شبكةُ القرآن الكريم واستقامَ أمرُها، فإن كثيرًا منْ مظاهرِ العوارِ التي تضربُ المجتمعَ المصرىَّ، سوفَ تختفي، وإنْ بقيتْ الأمورُ على حالِها، فلا نلومنَّ إلا أنفسَنا.