الذين غادروا قبل انطلاق القطار
"أشرف يوسف"، و"رضا زعفان"، صحفيان لا يعرفهما أحد، إلا قلة من جيلي الذي بدأ العمل في الصحافة منتصف التسعينيات، كلاهما كان يمتلك روحا جميلة، وقلبا بكرا لم تلوثه المصالح، وحبا للحياة، وثقة في المستقبل، وعشمًا في مهنة الصحافة النبيلة، وفوق كل ذلك، جيوبًا خاوية، وفقرا ليس غريبا على جيل كان يعتبر وصول راتبه إلى مائتي جنيه، حلما بعيد المنال!
"رضا" كان نموذجا لابن البلد، الشهم خفيف الظل، لم تكن الابتسامة تفارق وجهه، ما زلت أذكر فرحته وهو يملأ صالة تحرير جريدة الأحرار ضحكا ومرحا، مبشرا زملاءه أن مصادره المطلعة أكدت له أن الإدارة المالية ستصرف اليوم جزءا من الرواتب المتأخرة، يدخل كل الغرف، ويطلب من الصحفيين في أقسام الصحيفة المختلفة عدم الانصراف، كانت عبارته "محدش يمشي فيه قبض النهارده"، بشرى ينتظرها عشرات الشباب الذين جاء أغلبهم من الأقاليم للبحث عن موضع قدم..
كنا نفرح كما الأطفال في يوم عيد، رغم أن رواتبنا كانت تتراوح بين الخمسين والمائة جنيه، نحصل عليها حين ميسرة، وفي أغلب الأحوال يتم صرفها لنا على أجزاء أو "سٌلف"، وأحيانا كنا ننتظر وننتظر، لكن بشارة "رضا" لا تتحقق، ورغم ذلك لا نشك فيه أو في مصداقية مصارده المطلعة، فكلنا يعرف أن رضا لا يكذب..
وذات يوم، نظم الصحفيون رحلة ليوم واحد إلى الإسماعيلية، وهناك نزل رضا للسباحة مع زملائه، وفجأة اختفى، وبحثوا عنه كثيرا، حتى أخرجوا جثمانه، وتحلقوا حوله يبكون!
لم يكن "أشرف يوسف" يقل عن "رضا" براءة، ونقاء، وجدعنة، وحبا للناس، في لقائي الأول به عندما تَزاملنا في قسم التحقيقات بجريدة الأحرار، نظر كلانا إلى الآخر مندهشا، والسبب هو تشابه الملامح بيننا، تعارفنا وصارت بيننا صداقة، كان "أشرف" صحفيا نشيطا، أمينا، تولى بعد فترة تغطية أخبار محافظة القاهرة، وهي لمن لا يعرف فرصة جيدة لأي صحفي يفكر في استغلال موقعه لتحقيق مصالح شخصية..
وهناك صحفي – أعرفه بالاسم – بدأ حياته في المكان نفسه، فقيرا معدما، ومن التجارة في التراخيص وشقق المحافظة، كون ثروة لا بأس بها، وهو الآن رئيس تحرير وثروته تقدر بالملايين، لكن أشرف يوسف كان شريفا، إلى درجة أن محافظ القاهرة في ذلك الوقت، أرسل لرئيس التحرير يشيد بنزاهته وطهارة يده..
كان حلم "أشرف" الذي لا يكف عن الحديث عنه أن ينضم إلى نقابة الصحفيين، ومن أجل هذا الحلم ظل يعمل ويعمل، يجتهد وينتظر وعدا تلو الآخر من رئيس التحرير بتعيينه، حتي وقع عقد التعيين بالفعل، وبعده بأسبوع في شقة كان يستأجرها "أشرف" مع اثنين من زملائنا، واشتعلت النار لتُحاصرهم داخل شقتهم، فاضطروا إلى القفز من الشرفة بينما ينتظرهم الناس محاولين إنقاذهم..
وتم نقل الثلاثة إلى المستشفى، حيث كانت حالة "أشرف" أكثرهم سوءًا، ومرة أخرى يلتف الصحفيون حول زميلهم، يحملونه بأيديهم ليضعونه على سرير العمليات، نبكي وندخل في مشادات مع الأطباء لحثهم على إنقاذه، ثم يتم نقل "أشرف" إلى مستشفى آخر، وتتحسن حالته بعض الشيء، يكبر الأمل بداخلنا عندما يمن الله على الزميلين الآخرين بالشفاء، لكن "أشرف" يظل في العناية المركزة، نتطلع إلى وجهه من خلف الزجاج، ثم يموت!
وقتها كنا صغارا، أقصى تجاربنا مرارة أن نعجز عن شراء علبة سجائر، وأعظم أحلامنا أن يرى الواحد منا اسمه مطبوعا على تحقيق صحفي يحتل صفحة كاملة، وجاء موت "رضا" ومن بعده "أشرف" مثل زلزال هز قلوبنا بعنف، كأننا نتعرف للمرة الأولى على ما يسمونه بالفجيعة، وندرك أن ثمة أحداث كبرى قد تقع، أكبر بكثير من العجز عن تدبير ثمن وجبة في مطعم رخيص وعلبة سجائر..
كنا ساعتها نتعرف للمرة الأولى على "الموت" بوصفه حدثا جللا، بكينا جميعا ورحنا – بشكل لا إرادي – نتصل بأهلنا في الصعيد أو وجه بحري، ربما لنطمئن إلى أن عزيزا آخر لم يرحل ونحن غافلون، آباؤنا وأمهاتنا وأخواتنا وأصدقاء الطفولة الذين باعدت بيننا وبينهم المسافات، هل ما زالوا جميعا أحياء؟ أم أن الملك الذي خطف "رضا" و"أشرف" في لحظة وهم بيننا، خطف أحبة آخرين ونحن في الغربة دون أن ننتبه؟!
لا أعرف لماذا تذكرت الآن "أشرف" و"رضا" رحمهما الله، ولماذا أكتب عنهما بعد 22 عاما من الرحيل، هل هو الشوق إليهما؟ هل هو الحنين إلى أيام البراءة والأحلام البكر؟ أم أنني أحاول الإجابة على السؤال الغريب الذي يطاردني في أحيان كثيرة:
من يا ترى يستحق الرثاء؟ "أشرف يوسف" و"رضا زعفان"، اللذان غادرا القطار من قبل أن ينطلق؟ أم نحن الذين بكينا حزنًا عليهما وأكملنا الرحلة، وما زلنا على سفر؟ من الرابح؟!