تجربة رائدة بجامعة القاهرة
سعدتُ كثيرًا بتطبيق فكرة التفكير الناقد وتدريسه لكل طلاب جامعة القاهرة في مختلف الكليات؛ لأنه ببساطة شديدة أحد طرق التفكير العلمي، وهذا يعني انطلاقة جديدة وذهنية متطورة لطلاب الجامعة، تُعلم الطالب كيفية التفكير المُرتب والمُنظم، والنظر إلى القضايا والإشكاليات بصورة موضوعية مؤسسة على إعمال العقل الإنساني.
وما يُسعدني أن أجد رئيس جامعة القاهرة الأستاذ الدكتور محمد الخشت يطبق منهج التفكير الناقد على جميع طلاب جامعة القاهرة وهذا يدل على إدراكه للّحظة التاريخية التي يعيشها الشباب المصري وسط كم هائل من المعلومات والأخبار والأيديولوجيات على مواقع التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) المتنوعة وحجم ضخم من الإشاعات والأخبار؛ ومن ثم فإنها بمثابة سلاح لطالب وخريج الجامعة بمنهجية التفكير الناقد، وهذا يدل على إدراك رئيس جامعة القاهرة على أهمية إعمال العقل والتنوير.
ولم يتوقف الأمر على ذلك بل وجدت تطبيقا مقررا آخر على كل طلاب جامعة القاهرة ألا وهو "ريادة الأعمال" وتلك آلية أخرى يسلح بها طالب جامعة القاهرة عندما يخرج إلى سوق العمل، وهنا يكمن الجوهر وهو ربط التعليم بسوق العمل.
وأرى أنها مرحلة جديدة للجامعة بفكر جديد ومتطور يتناسب مع اللحظة التاريخية المعاصرة، ويتناسب مع التغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية أيضا، خطوة رائدة تحسب لرئيس جامعة القاهرة من ضمن الخطوات العديدة التي بدأت تُطبق في الجامعة نحو التطور والتقدم.
وأرجع مرة أخرى عزيزي القارئ إلى التفكير الناقد وتعريف أهميته وأهمية التجربة الرائدة في تاريخ جامعة القاهرة؛ فالتفكير الناقد يعد في الواقع قديمًا قدم الفلسفة، وهو بمثابة جسر للتفكير مع الآخر من خلال سمات مشتركة، فهو من أحد العوامل التي بواسطتها تتغير وجهة الحوار، فإذا تحقق قبول التفكير الناقد الإيجابي لدى الطرفين تنشأ أرضية مشتركة ويتغير مفهوم الحوار إلى الحوار (تفكير مع الآخر).
فالنقد هو مقدمة مهمة للتفكير المتكامل بين الطرفين المختلفين فإذا قبل كل طرف النقد الذي من شأنه البناء يصبح هناك تفاهم؛ ومن ثم حوار سليم مع احتفاظ كل طرف بكيانه وشخصيته الكاملة، فأي إبداع في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية يقوم على النقد وعلى التفكير الحر، ولُغويًا كلمة نقد تعني critical وتأتي من كلمة kritikos اليونانية التي تعني القاضي..
فالتفكير النقدي يجعل الإنسان يتوقف عن فعل الأشياء الخاطئة وغير القانونية.. والنقد هنا لا يعني التشويه أو التراشق بالألفاظ أو البعد عن القواعد الأخلاقية، كما نرى الآن كل يوم على صفحات "فيس بوك" وعلى بعض القنوات الفضائية والجرائد الصفراء.. إلخ.
فهو يعني إذن الوعي بوجود افتراضات مختلفة وطرح والإفصاح عن هذه الافتراضات ثم تقييم دقة تلك الافتراضات.. ومن الناحية الفلسفية نجد أن النقد يُنحى إلى شروط العقل ومقاييسه التي تتضمن تصورات صحيحة وتعطي قيمة صائبة للأفكار والأحكام ذاتها، فالتفكير النقدي يجعلنا نطرح الإشكاليات التالية:
هل يناسب هذا قيمنا؟ وهل يناسب هذا تربيتنا؟ وهل يناسب هذا أهدافنا؟ وهل يناسب هذا الإطار المجتمعي الذي نعيش فيه؟
فثقافة المجتمع الذي نعيش فيه هي نتاج من الثقافات والحضارات بداية من الفرعونية، والهيلينية، والهلينسية، فالمسيحية، والإسلامية العربية؛ ومن ثم لا بد من آليات متنوعة للحوار المجتمعي، والتفكير الناقد يدخل ضمن هذه الآليات لأنه ذو قدرة وفاعلية إذ يقوم بعملية مصالحة بين الأنا والآخر..
وعملية تكامل بين الفرد والجماعة ومن ثم تغيير السلوك في التصرف إزاء العالم والناس؛ حيث يشعر الإنسان أنه لم يعد وحده في المجتمع بل يطغى عليه شعور يقيني لتقبل الآخر والحوار معه لأن من استخدامات ومهام التفكير الناقد هو الكشف عن العيوب والأخطاء وهو فحص وتقييم الحلول المعروضة ومن ثم حل المشكلات، أو التحقق من الشيء وتقييمه بالاستناد إلى معايير متفق عليها مسبقًا؛ لأنه تفكير معقول مركز على اتخاذ قرار بشأن ما نصدقه ونؤمن به أو ما نفعله.
والتفكير الناقد هو التفكير الذي يتطلب المستويات المعرفية الثلاثة (التحليل والتركيب والتقويم)، لذا لو طبق بطريقة سليمة فإنه يكون قادرًا على تطوير المجتمعات في سياق ثورة المعلومات في كل المجالات المعرفية التي تتطلب عقلًا نقديًا يستطيع تفنيد هذا الفيض من المعلومات والتفرقة بين ما هو صالح وما هو طالح، وبين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، أي الانتقال من الذاتية إلى الموضوعية، أي من الأنا إلى الآخر، ومن الانغلاق إلى الانفتاح والتعايش مع ثقافات وعقائد وعادات مختلفة؛ ولذلك هو عملية إيجابية تضع الأشياء في سياق عملي، ويؤدي إلى التواصل المعرفي مع الآخر، وهو أسلوب يحرر الإنسان من مفاهيم تسبب له القلق.
فالعقل النقدي هو الوسيلة الوحيدة لتحويل المعلومات إلى معرفة؛ لأن المعلومات لا تشكل معرفة؛ ومن هنا أصبحت مسئولية ضخمة على مجتمعاتنا العربية المعاصرة وهي تشكيل العقل النقدي الذي ينعكس بدوره على الجانب السياسي والثقافي والاجتماعي، الذي أيضًا بدوره ينعكس على التغيير الجوهري للفكر من مجرد التلقين إلى التحليل؛ ومن ثم تغيير نمط التنشئة الاجتماعية على أساس الإبداع، وتشجيع الحوار بأنماطه المختلفة.
ولذلك فهو نمط مهم من أنماط التفكير لأنه يجعل المواطن يبعد عن الأخطاء القاتلة والتوقف بالنقد والتفكير عند جميع الأطروحات والمبررات من مختلف المصادر وكل ما يعرض من إعلانات بالميديا، ومناقشة أي طرح سياسي أو عقائدي حتى لا يتم التصديق بكل ما يقال في المجتمع وفي حياتنا ومشكلاتنا اليومية.
ومعنى أن يطبق رئيس جامعة القاهرة هذا النمط من أنماط التفكير على كل طلاب الجامعة بمختلف الكليات هو رغبته الأكيدة في المساهمة في بناء العقل المصري ومن ثم المساهمة في بناء مجتمع واع؛ لأن هناك آلاف الخريجين كل عام من طلاب جامعة القاهرة يشكلون نسبة كبيرة من الشباب المصري..
فبالإضافة إلى ما سبق يتطلب التفكير الناقد عدة خطوات: كالدقة في ملاحظة الوقائع والأحداث من خلال التقييم الموضوعي والنقد العلمي للبعد عن النظر إلى الأمور بكل أشكال التعصب كالتعصب العنصري، والتعصب القومي المتطرف، والتعصب الديني، ومعنى ذلك أن يتعلم الطالب من خلال التفكير الناقد الموضوعية وإعمال العقل والتنوير والانفتاح على الآخر.
أدعو جميع جامعات مصر أن تطبق تدريس منهج التفكير الناقد مساهمة في بناء الشخصية المصرية.. وأخيرًا وليس بآخر تقديري للجامعة ورئيسها على الخطوات الجادة نحو العلم والتقدم والأخذ بيد المجتمع.