عبر مضيق جبل طارق.. عودة «قوارب الموت» بين المغرب وإسبانيا
قبل سنوات اعتقد الأوروبيون أن السواحل الإسبانية لم تعد على رأس قائمة تهريب البشر بسبب تعاونٍ مثمر مع الضفة الأخرى، خاصة المغرب، الذي مكّن من تقليل ظاهرة اتجهت أكثر نحو الطريق الليبية-الإيطالية. لكن الوضع اختلف هذا العام، وما أكدته منظمات دولية متعددة، بيّن أن "قوارب الموت" عادت إلى الحياة مجددًا في الطريق البحرية بين إسبانيا والمغرب.
وفي الوقت الذي يلقي فيه جزء كبير من الإعلام الإسباني باللائمة على السلطات المغربية، ويتحدث عن إهمال مغربي متعمد تبتغي من خلاله الرباط ضغطًا على مدريد حتى تعطي هذه الأخيرة اهتماما أكبر لدور المغرب في مراقبة الحدود الأوروبية، كما تقول جريدة إلموندو، فإن هناك اتهاما مشابهًا في وسائل إعلامية مغربية لإسبانيا بالتساهل، خاصة وأن تقارير إعلامية متعددة أكدت ضلوع مهربين إسبان في نقل المهاجرين.
عودة الحياة
من أصل 74.501 مهاجر وصلوا أوروبا بحرًا، استقبلت إسبانيا لوحدها نحو 43 % منهم 32.272، وذلك في الفترة بين الأول من يناير و12 سبتمبر 2018، ممّا يجعلها الوجهة الأولى للهجرة السرية عبر البحر. والمثير أن المهاجرين لا يبالون بالموت الذي يتربص بهم في مغامرتهم، إذ اختفي نحو 1.586 شخصًا، 350 منهم في السواحل الإسبانية والمغربية، حسب أرقام المنظمة الدولية للهجرة.
فيديو لمهاجرين
وفي الوقت الذي فقدت فيه السواحل الإيطالية بريقها، مستقبلةً أقلّ رقم من الوافدين خلال السنوات الخمس الأخيرة، تنتعش السواحل الإسبانية شهرًا بعد شهر. والدليل أنها شهدت ارتفاعًا كبيرًا في عدد الوافدين منذ شهر يونيو الماضي، بل إن عدد من وصلوا في يوليو، وهو 7.588 مهاجرًا، يقارب العدد الإجمالي للأشهر الخمسة الأولى من هذا العام.
وتؤكد المنظمة الدولية للهجرة لـDW عربية، أن الوضع في هذه الطريق البحرية لم يصل بعد لدرجة الإنذار، لكنها تطلب الاهتمام بما يجري لأجل ضمان تنقل قانوني وآمن للمهاجرين.، مشيدة في نفس الوقت بطريقة تدبير المغرب لملف الهجرة.
تؤكد وكالة فرونتيكس الأوروبية بدورها هذه المعطيات، إذ تشير إلى استقبال السواحل الإسبانية في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2018 نحو 29.600 مهاجرٍ، أي ضعف ما استقبلته في الفترة ذاتها من العام الماضي. وتبرز الوكالة أن الجنسيات المغربية ثم الغينية ثم المالية، تحتل المراتب الأولى في قائمة راكبي مغامرة المتوسط نحو إسبانيا.
الأسباب
"صحيح أن ارتفاع أو انخفاض عدد المهاجرين غير النظاميين له علاقة بالإجراءات الأمنية ومدى تطبيقها، لكن السبب الأكبر في الهجرة هو ظروفهم المعيشية، فكلما زادت حدة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في بلدانهم، زادت محاولاتهم لأجل الهجرة، وكلما توّفرت مؤشرات على التنمية في بلدانهم، انخفضت محاولاتهم للهجرة"، كما يقول عمر الحرتيتي، رئيس مؤسسة Sevilla Acoge لـDW عربية.
ويضيف الحرتيتي أن من بين أسباب استعادة مضيق جبل طارق نشاطه في الهجرة السرية، هو توجه المهاجرين إلى المغرب كبلد عبور بدل ليبيا التي ساء وضعها الأمني كثيرًا، فضلًا عن نشاط مطردٍ لشبكات تهريب المخدرات التي باتت تعمل في مجال نقل المهاجرين لأجل التغطية على أنشطتها الحقيقية، وفق قوله.
"لم يتهم أيّ مسئول إسباني المغرب بتسهيل الهجرة السرية، إلا صحفًا معينة معروفة بخطوطها التحريرية"، كما يقول عبد الحميد البجوقي، خبير سابق في مجال محاربة العنصرية بإسبانيا لـDW عربية، لكنه يستدرك القول: "إذا كان المغرب يغضّ الطرف عن انطلاق المهاجرين، فإسبانيا تغض الطرف كذلك أثناء وصولهم، فلم تتم أيّ عملية اعتقال لمن وصلوا مؤخرا".
ويعزو البجوقي تنامي الهجرة السرية إلى وجود فتور بين الحكومتين المغربية والإسبانية: "بدأ هذا الفتور في الأشهر الأخيرة من حكومة ماريانو راخوي واستمر مع حكومة بيدرو سانشيز". ويتحدث البجوقي عن أن دور المغرب في حماية الحدود يحتاج منه مجهودًا كبيرًا، وبالتالي يرى المغرب أن إسبانيا مطالبة بدورها بتثمين هذا المجهود عبر آليات متعددة منها التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، حسب قول المتحدث.
أمل للمهاجرين
أعطى استقبال إسبانيا لسفينة أكواريوس، وعلى متنها 630 مهاجرًا، بعد رفض إيطاليا ومالطا رسوّ السفينة بها، إشارة على تسامح الحكومة الإسبانية الجديدة مع قضايا الهجرة، خاصة وأن الحكومة ذاتها دعّمت نظام استفادة المهاجرين غير النظاميين من التغطية الصحية، وأعلنت أنها ستزيل الأسلاك الشائكة في السياجات التي تحيط بمدينتي سبتة ومليلية.
وتؤكد الحكومة الإسبانية أنها لا ترفض الهجرة الشرعية والمنظمة، خاصة لإدراكها أن بلدها يعاني من الشيخوخة، ما جعلها عرضة لانتقادات المعارضة اليمينية التي ترفض أيّ سياسة انفتاح تجاه الهجرة. وفي هذا السياق يقول عبد الحميد البجوقي: "الحكومة الإسبانية تتعامل باحترام كبير لحقوق الإنسان في مجال الهجرة، لكن لا يمكن أن تنتظر من هذه الحكومة انفتاحًا تامًا، لأنها تواجه إكراهات كبيرة، فضلًا عن أن عمر اشتغالها لا يزال قصيرًا".
المرونة الإسبانية في التعامل مع المهاجرين غير النظاميين تظهر في غض الطرف عن وجودهم حتى وهم يقطنون أماكن معروفة، كما عليه الحال بالأكواخ في جنوب البلد. عدد من هؤلاء المهاجرين يعملون في المجال الزراعي، ووفق ما يؤكده عمر الحرتيتي، الذي يؤكد أن الشركات الفلاحية تبقى من أكبر المستفيدين من المهاجرين، لأنها تشغّلهم بأجور زهيدة، خاصة وأنها تعي عدم قدرتهم على الدفاع عن حقوقهم.
التأكيد ذاته يأتي على لسان البجوقي: "أكبر من يتضرّر من البطالة في البلد هم المهاجرون غير النظاميين، فغالبًا ما يتم استغلالهم أو حتى استعبادهم من لدن شركات صغرى ومتوسطة أو أفراد في مجالات تصعب مراقبتها كالزراعة والعمل المنزلي". ويوصي البجوقي بالعودة إلى نظام سابق كانت إسبانيا تتعامل به، عندما كانت تشجع هؤلاء المهاجرين على التبليغ عن حالات استغلالهم، حيث تقوم بعد ذلك بتسوية أوضاعهم، بدل استمرار الوضع الحالي الذي يهدّد كل من يُبلغ بالاعتقال ما دام وجوده غير قانوني.
لكن عددًا من هؤلاء المهاجرين، ورغم وعيهم بهذا الاستغلال، لا يجدون بديلًا، خاصة وأن منهم من يعيلون أسرًا في بلدان الأصل عبر أجرٍ يظهر زهيدًا للغاية في أوروبا، بينما يظهر جيدًا لدى مهاجرين يقارنون ما يحصلون عليه من يوروهات بعُملات بلدانهم. كما أن الكثير منهم، وفق ما يؤكده عمر الحرتيتي، لا ينظر إلى إسبانيا بدورها سوى بلد عبور، ستنتنهي فيه المغامرة ذات يوم نحو بلدان أخرى يتصور المهاجر أنها تجسد بالفعل "الفردوس الأوروبي".
الكاتب: إسماعيل عزام
هذا المحتوى من موقع دوتش فيل اضغط هنا لعرض الموضوع بالكامل