السَّادة والعبيد
نحنُ شعبٌ مشغولٌ دومًا بالتصنيفاتِ والتقسيماتِ غير الأخلاقية.. بعضُ الذين في نفوسِهم مرَضٌ وغرَضٌ يُصنِّفون المصريين سادةً وعبيدًا، لا يحكمُهم في ذلكَ قانونٌ أو عُرفٌ أو خُلُقٌ حميدٌ.. "الأنا الطاووسية" تقودُهم وتحرِّكُهم كيفَ تشاءُ.
مسؤولٌ رفيعُ المستوى قالها من قبلُ: "نحنُ السَّادةُ.. وغيرُنا العبيدُ"، ودارَ الزمانُ دورته سريعًا، وصارَ الرجلُ نسْيًا منسيًا. ولكنْ ذهبَ الرجلُ، وبقيتْ عبارتُه الشيطانية قناعةً راسخةً لدى من دفعتْهم أقدارٌ لاهيةٌ إلى مناصبَ رفيعةٍ، يسكنُهم الكبرُ، ولا يعرفُ التواضعُ إلى قلوبهم سبيلًا، لا يرون سوى أنفسِهم، ويعتبرون سواهم عبيدًا، لا حقوقَ لهم وعليهم كلُّ الواجبات.
هذهِ قناعتُهم الواهيةُ الواهِنةُ، ولكنَّ الواقعَ يومًا بعد يومٍ يثبتُ زيفَها وضلالها، وينحازُ إلى الموصوفين "عبيدًا"، ويرفعهم فوق رءوس من يرون أنفسهم "سادة"؛ فـ "السيَّدُ" الذي يتورطُ في قضايا سيئةِ السمعة، ويُصِّرُ في عمله نظيرَ "مالٍ حرامٍ" هو "العبدُ الحقيقى"، أما ذلك الموصوفُ "عبدًا" الذي ينتصرُ على نفسِه، ويقهرُ فقرَه، ويردُّ الأماناتِ إلى أهلِها، ولا يقبلُ مالًا حرامًا فإنه هو "السيدُ الحقيقى".
صفحاتُ الحوادثِ كاشفةٌ لما يحدثُ في المجتمع المصرى، لا يمرُّ يومٌ دونَ أنْ تطالعَنا بخبرٍ عنْ تورُّطِ مسؤولٍ كبيرٍ من صنف "السادة" في قضية رشوة مليونية نظير مخالفة مهامِّ وظيفتِه، ومنحِ منْ لا يستحقُّ ما لا يستحقُّ، وإهدار حق الدولة، والإساءة إلى سمعتِها في الداخل والخارج، في الوقتِ الذي يحصلُ هذا المسؤولُ فيه على راتبٍ كبيرٍ يُغنيه عن ذُلِّ السؤال والرشوة والسجن، فضلًا عنْ وضعٍ اجتماعىٍّ مرموقٍ.
وكمْ منْ مسؤولٍ كبيرٍ، لم يكنْ يفصلُه عن سنِّ التقاعدِ سوى أسابيعَ أو أشهرٍ قليلةٍ، ولكنه أبى أنْ تبقى صفحتُه بيضاءَ، فيمدُّ يديهِ إلى الحرام ويهدمُ المعبدَ على رأسِه ورءوس أسرتِه ويبقى موصومًا مدى الحياة.
بعضُهم يتجاوزُ ابتلاعَ المالِ الحرام، فيطلبُ رشوةً جنسيةً، كما يدفعُ الخيالَ آخرينَ فيطلبونَ أداءَ فريضةِ الحجِّ مجانًا، رغمَ أنَّ اللهَ طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا.. النماذجُ أكثرُ منْ أنْ تُحصَى، والذي يُعلَنُ على رؤوسِ الأشهادِ لا تتجاوزُ نسبتُه 10% مما يتمُّ في الخفاءِ وتحتَ جُنح الظلام.
في المقابل.. نجد مُسعفًا يعثرُ في موقع الحادث على حقيبة بها أكثرُ من 800 ألف جنيه فيُهرعُ بها إلى قسم الشرطة، ليتمَّ تسليمُها إلى أهل المُتوفَى، في الوقت الذي يحصلُ هذا المسعفُ فيه على مرتبٍ زهيدٍ، لا يواكبُ دورَه الإنسانىَّ.. ومنذُ أيامٍ.. عثرَ عاملُ نظافةٍ على مبلغ مالى كبير، فلم يطمعْ فيه، بل تغلبَ على وساوس النفس الأمَّارة بالسوء، وسلَّمه إلى قسم الشرطة.
وتلكَ هي المُفارقةُ.. نفرٌ من أصحابِ المناصب الرفيعةِ والرواتب الكبيرة يتضاءلون، ويمدُّون أيديَهم إلى الحرام.. أما الفقراءُ والمعدومون فلا يزالون ينتصرون للمبادئ المثالية والأخلاق القويمة.. والسؤالُ هُنا: منْ همْ إذنْ السَّادةُ، ومنْ هُمْ العبيدُ؟