رئيس التحرير
عصام كامل

محمود عبد الدايم يكتب: «خريف»

محمود عبدالدايم
محمود عبدالدايم

الجمعة.. الأسبوع الأخير من سبتمبر.. صيفٌ خانقٌ يستعدُّ للمغادرة، وخريفٌ أكثر كآبةً يتأهب للانقضاض على روحِه.. الجمعة، لم يكن إجازته الأسبوعية، كالبقية، كان مختلفًا.. غريبًا، وفي بعض الأحيان مجنونًا.. يُحدث نفسه في الشارع، يجلس على حافة الأرصفة، يدندن مقطع أغنية قديم جدًّا بمتعة غريبة، يغادرك دون أن يلقي التحية أو يُكلف نفسه عناء تبرير وقاحته، التي بمرور الأيام جعلته وحيدًا.. وهذا ما كان يريده من البداية.. وقد كان.


أربعُ ساعاتٍ كاملةٍ.. لا نقصانَ فيها أو زيادة.. قضاها متربعًا.. متخشبًا على رصيف منزوٍ في ميدان التحرير.. صامتًا طوالَ دقائقِها.. حزينًا.. فرحًا.. مجنونًا.. مندهشًا.. مستمتعًا.. ومبتسمًا بنصف ضحكة ساخرة تلمح بين ثنايها شتائم بذيئة قذرة يطلقها في وجه العالم.

الساعة الأولى
نبتتْ ذقنُه فجأةً.. الشعيراتُ البيضاءُ غزتْ خدَّيْه.. اقتربتْ من عينيْه.. كادت أن تُغلقهما إلى الأبد، لكنَّها –ويا للعجب– توقفتْ في اللحظة الأخيرة.. يبدو أنها كانت تلتقطُ أنفاسَها استعدادا لجولة أخيرة في معركة محسومة من البداية.

ستونُ دقيقةً مرتْ.. تذكرَّ أمَّه وقتها.. في الدقائقِ العشرِ الأولى.. كان يحدثها بصوتٍ هادئٍ، لم يخلُ من «حِنِّيةٍ»، تذكرا سويًّا أيامه الأولى، ذكرها بصوت ضحكتها.. زغرودتها الممتعة.. قلَّدَ صوتَها وهي تدعو الإله أن يأخذَه بعدما كسر رجلَ دجاجتها العجوز.. ولا تلمحه واقفًا وراءها وهي تطلب من إلهها ألا ينفذَ دعوتها الأخيرة.. وتترجاه أن يعيده إليها.. راضيًا مرضيًّا.. أن يشفيه من جنونه.

الدقائق التالية.. تذكر نفسه، كان جميلًا.. أي نعم شقيًّا بعض الشيء، كعادة الأطفال، لكنه كان حنونًا عليها، لم يقبل يومًا أن تنام دون أن يروي لها يومه كاملًا.. شجاراته المتتالية.. مبررًا لها الخدش الجديد تحت جفنه.. القطع الذي طال جلبابه.. مكورًا يديه، شارحًا لها كيف ضرب ابن جارتها عندما شتمه بـ«اسمها».. يضحك.. تضحك بدورها.. وينام مطمئنًا فاردًا قدمه اليمني بين ساقيها، دافنًا رأسه الصغير في صدرها، مستنشقًا رائحة عرقها الطيبة، المختلطة برائحة العجين واللبن «الرايب».

وعدها في ليلة ما أن يزورا قبر النبي سويًّا.. وسيدعو الله أمام الكعبة أن يمنحه بعضًا من الهدوء وأن يطيل في عمرها حتى تراه زوجًا وأبًا وجدًّا.. وأن يُبقي رائحتها الطيبة الممتعة هذه.. صمتت الأم لحظتها.. وعندما طالَ صمتُها.. ظنَّ أن حلمَه لم يعجبْها فأعلن تراجعه عنه، لكنها بكت.. شهقت.. دعت ربها أن يبقيه إلى جواره.. أن يبقيه «حنونًا».. ونامت واضعة رأسها في صدره الصغير، مستنشقة رائحة «تراب الشارع» وعرق المراهقة المزعج.. متحسسة خدوشه الجديدة.. من يومها.. لم تغادر حضنه.

الساعة الثانية
مرحةً كانتْ.. طيف من الفرحة يمر على الذاكرة.. ينعشها، يُذكره أن الحياة تستحق أن يستكملها، صباحًا تمنحه قُبلتين، اعتادا على الأمر هذا منذ سنواتٍ أربع، بدأ هو مسيرة القبلات الصباحية، وما هي إلا أشهر، ومنحها عجلة القيادة، علمها كيف تضم شفتيها.. قريبة الشبه بـ«حبات الفراولة»، تطبع القبلة جيدًا على خده، تنتظر قليلًا لتطمئن روحه، ثم تعود إلى سيرتها الأولى، متأهبة لمنح الخد الثاني قُبلته الخاصة.

غرق خلال الدقائق الستين في نعيمها.. قبلاتها.. أحضانها الدافئة البريئة.. كتب لها وصيته، وقال: «لن أمنحك إلا النصيحة.. أوصيك بقلبك.. أوصيك بقلبك.. أوصيك بقلبك، حافظي عليه صافيًا كعينيك.. رقيقًا كراحة يدك.. طيبًا كروحك.. إن سقط في الوحل.. ستسقطي بعده.. ولا قيامة لك بعد هذا السقوط.. لن تمر قافلة لتلقي بدلوها.. لن يكون على الجانب الآخر عزيز يمنحك المُلك والطمأنينة.. حافظي على قلبك.. وبعدها اتركي العالم وراء ظهرك.. أعدك بمقعد مريح على سفينة النجاة».

الساعة الثالثة
كان وقحًا معها.. جبانًا لو شئنا الصراحة، قبل ساعات مضت، أخبرها أن ترحل، تجاهلها تمامًا.. كان يخشى أن يُحبها، يتورط فيها، أخبرها أنها السبب.. جميلة فوق المعتاد كانت ليلتها.. روت له كيف رأت نفسها أمام المرآة.. حدثته عن جسدها.. لأول مرة تتجاوز الخطوط الحمراء، غير المرئية، التي وضعاها سويًا منذ بداية العلاقة.. كان منسجمًا مع الحكاية.. مع لسانها الذي يعلو بروعة، ويسقط محدثًا ارتباكًا في المنطقة الكائنة تحت القلب.. المعدة تضطرب.

التقط بين كلماتها، إعجابها بالمساحة الممتدة بين أذنيها، وكتفيها.. صراحة.. كانت مساحة تصلح لـلفتنة، بيضاء تشوبها بعض «الصُفرة» المحببة المثيرة.. ملساء إلى حد الحرير، ناعمة.

تحرك ناحيتها.. دنا من منطقتها البيضاء المدهشة.. وقبل الخطوة الأخيرة تراجعَ.. كان يريد أن يمنحها ألفَ قبلة.. إشعالَ معركةٍ أبديةٍ في المنطقة تلك.. لكنه كان جبانًا.. فغفرت له تراجعه مهزومًا.

كمن اكتشفَ قارَّةً جديدةً، كانت تروي.. لم تنتقِ الكلمات، كانت تقصد أن تكون صريحة معه، أزاحت ورقة التوت الأخيرة عن جسد علاقتهما، أخبرته عن روعة النهد الأيسر، كان أكثر استدارة من شقيقه الأيمن، كان ملهما.. قاتلًا... كان- حسبما قالت- ديكتاتورًا.. شرسًا إلى حد عدم توانيه عن اغتيال من يقترب منه بلا إذن مسبق، وجواز مرور ممهورًا بـ«تأشيرة» لا تعطيها إلا سلطات قلبها وجسدها.. إن أراد الأخير شيئًا من المتعة.

تجاهلها.. تحركت عيناه على خريطة الحكاية.. تأكد من صدق الرواية.. وانتظر بقية التفاصيل.. بأنوثة لم تصطنعها – كما اعتادت- كشفت له معالم قارتها الجديدة، أحراشها.. غاباتها.. وحوشها.. ونبعها الدافئ الصافي.

ابتلع ريقه.. مرة.. اثنتين، وقبل أن يسقط في بئر الثالثة.. طالبها أن ترحل.. كان حادًّا معها، ابتلعت وقاحته على مهل كما يليق بامرأة تعرف كيف تخرج الأطفال من جيوب الرجال السرية.. تتركهم يلعبون على أسوارها دون أن يدنوا من أشجارها.. تفاحها.. خوخها.. فاكهتها المحرمة.. تعطيهم مساحة على شواطئها لكنها تتقن جيدًا حساب لحظات المد والجزر، ومتى تقلب السفينة على رأس الربان والبحارة الحالمين.. وتقدمهم وجبة ساخنة لأسماكها المفترسة المعتادة على نهش لحم العاشقين.

الساعة الرابعة
لم يواجهها يومًا.. اختار من البداية الانزواء في ركن غير مرئي.. يمرر الأيام، كما تمر قطرات مياه حمامه الصباحي على جسده.. منزلقة إلى نهاية متوقعة.. غير أنه قضى الستين دقيقة الأخيرة أمامها، أخبرها أنه كان يحبها، ضغط كثيرًا على فعل الماضي.. وبكى أخيرًا.
الجريدة الرسمية