رئيس التحرير
عصام كامل

حرب استنزاف


قديمًا قالَها "يوسف وهبي": "وما الدُّنيا إلا مسرحٌ كبيرٌ"، أما الواقعُ الذي يعيشُه معظمُ المصريين حاليًا فيؤكدُ أنَّ "الحياة في مِصرَ حربُ استنزافٍ"، نعمْ.. فقراءُ المصريين وبُسطاؤهم.. يتعرضون لحربِ استنزافٍ مُمنهجةٍ ومُزدوجةٍ. قروشُهم القليلة أصبحتْ هدفًا لـ"تجار التعليم والطب والغذاء" ومنْ على شاكلتهم.


المدارسُ الخاصة بدأتْ موسم إذلال أولياءِ الأمور برفع مصاريفِ الدراسةِ "والباص" والزي المدرسي، الزيادةُ جاءتْ مُباغتة ومُربكة وتجاوزت 50%، أما المدرسون فلم يُفوِّتوا الفرصة ورفعوا أجورَهم سواءً في "الدروس الخصوصية"، أو "المراكز التعليمية"، وكذلك الكتبُ الخارجية، فقد تضاعفَ سعرُها، في ظلِّ استمرار عُقم الكتابِ المدرسي.

قِسْ على ذلك أسعارَ جميع مُتطلبات العمليةِ التعليمية، التي لا تحملُ من اسمها نصيبًا، فالجامعاتُ والمدارسُ في مصر لا تُخرِّج سوى أُميِّينَ، لا يجيدون قراءة أو كتابةً.. إلا قليلًا، وزيرُ التربية والتعليم الحالي مشغولٌ في تنظيراتهِ التي لا يجيدُ سواها، مَنْ كان وليًا لأمر تلميذين أو أكثر في المدارس الخاصة.. اسألوا له التثبيثَ، لأنه في كرْبٍ مُستمرٍ وأعباءٍ لا تنقطعُ.

ومِنْ التعليم إلى العياداتِ الخاصةِ للأطباء حدِّثْ ولا حرَجَ، لم يعدْ لـ"الرحمةِ" مكانٌ في قاموس تُجَّار الطب الجُدُد. صِغارُ الأطباءِ رفعوا سعر الكشف إلى 200 جنيه، أما الكبارُ فقد تجاوزَ سعرُ الكشف عندهم ألف جنيه، المريضُ بالنسبة إليهم "حتة شغل"، تمامًا كما يتعاملُ "الحانوتية" مع "جثامين الموتى"، هؤلاء الأطباءُ يرفعونَ شعار: "اللي مش معاه فلوس مش مهم يتعالج أو يروح المستشفيات الحكومية"، لأنهم يعلمون أن الداخل إلى تلك المستشفيات مفقودٌ والخارج منها مولودٌ.

ومنْ تُجار التعليم والطبِّ.. إلى تُجار الغذاءِ والكساء الذين يُغالون في "كل شيء"، معظمُهم أسقطَ جميعَ الاعتباراتِ الإنسانيةِ والأخلاقيةِ، لا يشغلُهم سوى تحقيق الأرباح والمكاسب المالية، بغضِّ النظر، إنْ كانتْ حلالًا أمْ حرامًا، ما يُسمى جهاز "حماية المستهلك" تم تحنيطُه منذُ سنوات، ورئيسُه الحالي مشغولٌ بتسويقِ نفسِهِ إعلاميًا بـ"مبادراتٍ ساذجةٍ غير ذات جدوى"، ربما يتطلعُ إلى استوازره.

وبصفةٍ عامةٍ.. فإن الحكومةُ لا تكتفي بالصمتِ على عملية ذبح الفقير واستنزافه ماديًا ومعنويًا، بل أصبحت مؤخرًا "صاحبة الحقوق الحصرية" في استنزاف المواطنين من خلال رفع أسعار خدماتها بصورةٍ خرافيةٍ، بدءًا من أسعار المواصلات العامة والمترو، مرورًا بالبنزين والسولار، وليس انتهاءً بالضريبة العقارية.

ما لا تريدُ أن ننتبهَ الحكومة إليه وتتعامى عنه، هو أن هذه الأجواءَ الصعبة خلَّفتْ مشاكلَ وأزماتٍ اجتماعيةَ لا تتوقف، بدءًا من تزايد وتيرة حالات الطلاق، وصولًا إلى المذابح الأسْرية الجماعيةِ المروِّعةِ، وليس انتهاءً بارتفاع أعداد نُزلاء مراكز ومستشفيات الأمراض النفسية والعقلية.

قبلَ عامين منْ قرار تعويم الجنيه، كانتْ نسبة المرضى النفسيين في مصر 30%، أما الآن فربما تكون تجاوزت ثلاث معدلاتها، المصريُّ الآن يذوقُ الأمرَّين، من تجار جشعين متوحشين، وحكومة لا ترحم، وكلا الطرفين "التجار/ الحكومة" يسابقُ الزمنَ لانتزاع ما في جيوبه وتمزيقها.. فماذا عساهُ أنْ يفعلَ؟
الجريدة الرسمية