الهجرة النبوية ونموذج التخطيط التكتيكي والإستراتيجي!
التكتيك ـ لمن لا يعرف ـ هو الخطوات المطلوبة للوصول إلى الهدف الرئيسي الذي هو الهدف الإستراتيجي، ولذلك يمكن اعتبار التكتيك الخطة قصيرة الأجل، والاستراتيجية هي الأهداف النهائية المطلوب تحقيقها وإنجازها.. لكن ما علاقة ذلك بالهجرة النبوية الشريفة وهي حدث ديني بحت؟
وقد ينفلت أحدهم ويقول: "انتو كل حاجة تدخلوها في الدين"؟ ثم ينفعل أكثر وأكثر ويقول: "الهجرة يا بيه عمل بشري خالص انتهى بتوفيق الرسول، فأقاطعه وأقول عليه الصلاة والسلام ـ بسلام إلى يثرب.. المدينة يعني.. فبلاش نفلسف كل حاجة "!
أصحاب الرأي السابق أحرار فيما يقولون.. ونحن أيضا أحرار فيما نعتقد فيه ونؤمن به.. ونحن من المؤمنين أن الوحي في الهجرة كان موجودا والإلهام الإلهي أيضا والفرق بينهما كبير.. بل إن الهجرة فيها دروس في التخطيط وفنونه بل وفيها تشريع أيضا.. كيف ذلك؟
ونقول:
عند لحظة الهجرة من مكة لم تعد فكرة الهجرة نفسها، فقد هاجر بعض المسلمين إلى الحبشة، وبعضهم سبق إلى المدينة نفسها، وبالتالي هجرة الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام لم تكن صادمة ولا غريبة، بل كان لها إشارات مثل طلبه من أبي بكر أن يتمهل في رغبته في الهجرة لعله يجد صاحبا!
كان للرسول رجاله إذن في المدينة، وبالتالي فالظرف الموضوعي ناضج للعمل الكبير.. مصعب ابن عمير هناك ذهب يعلم الناس دينهم، وصار نفوذه كبيرا لديهم لحبهم له، على بن أبي طالب أول من آمن من الشباب يبقي لرد الحقوق إلى أصحابها من أموال ومتعلقات لبعض القرشيين عند النبي. أداء الأمانة فرض حتى مع الكافرين.. هذا تشريع.. أبو بكر أول المسلمين من الرجال المؤتمن الأول على الرحلة وشريكها الأساسي..
أسماء بنت أبي بكر تذهب بالطعام إلى النبي وصاحبه في غار ثور تساعدها أختها عائشة.. عبدالله بن أبي بكر يجالس أهل قريش يعرف الأخبار ولا يتعجب منها ويذهب بها إلى الغار عند آخر النهار.. عامر ابن فهيرة يرعي غنم أبي بكر صباحا ونهارا، لكن لا يشك واحد فيه أبدا أنه هو أيضا من يذهب ليلا بالحليب والشراب إلى النبي وصاحبه.. وهو يرعي الغنم يمحو آثار أقدام أسماء وعبدالله بن أبي بكر اللذين يذهبان إلى هناك.. إلى غار ثور.. خبرته جعلته يوظف الغنم لذلك..
ثم يأتي دور الدليل.. دليل الرحلة الصعبة التي لو حدث خطأ واحد بها لتغير الأمر كله إنه عبدالله بن أريقط.. المشرك ؟! الذي على دين قريش؟! نعم.. وهذا تشريع آخر.. يجوز الاستعانة بمن هم على عقائد أخرى حتى لو كانت فاسدة وكافرة إنما بثلاثة شروط فهمناها من درس الهجرة.. أن لا يكون معاديا..
وقد كان أريقط بعيدا عن عداء قريش للإسلام والمسلمين.. والثاني أن يكون مؤتمنا..وقد كان.. وثالثا ألا يوجد غيره من أهل الدين يستطيع القيام بالمهمة! وقام بها على الوجه الأكمل وكان دليلا رائعا ساهم في نجاح الهجرة!
ملاحظات تبقي.. الخداع.. سار موكب الهجرة إلى الجنوب أولا، والمنطق يقول أن يسابق الزمن ويسير في اتجاه المدينة.. ملاحظة أخرى.. جواز الاستعانة بالكافرين لكن لا يجوز الاستعانة بالأعداء حتى لو كانوا مؤمنين! والثالثة أنه حتى ورغم اليقين التام بدعم الله ورعايته إلا أن الأخذ بالأسباب ضروري وحتمي..
تخلفنا كثيرا عن الإسلام الحقيقي.. ونتفق تماما مع المفكر الماليزي قاسم أحمد حينما كتب كتابه المهم "التقدم إلى الإسلام".. لم يقل الرجوع إلى الإسلام.. حقا.. تخلفنا عن ديننا الرائع كثيرا!