مروة قابيل تكتب: الانطفاء الفكري
حالة من الانطفاء الفكري تصيب بعض العقول البشرية؛ فتهلكها وتدمرها، وتفقدها القدرة على التخطيط والإبداع والتميز والابتكار.
تصحر العقول لا يختلف تمامًا عن تصحر الحقول، فهو آفة الآفات، وضرره أشدّ وأنكى على المجتمع، ويدلّ التصحر الفكري على الجهل في العلم والثقافة، فهو مرض عضال وشرّ مستطير، قد يخسف بالإنسان إلى مستوى دون إنسانيته، فيَرتكب من التصرفات الحمقاء التي سرعان ما توقعه في التردي والسقوط، وقد قيل يومًا "عداوة العاقل أقل ضررًا من مودة الجاهل"، ولذا جاءت الديانات السماوية تكافح الجهل وترفع راية العلم.
إن أردنا أن نضاهي الدول المتقدمة أو نحذو حذوهم، علينا معالجة الفكر الثقافي الذي يؤدي إلى التغيير نحو الأفضل، والمثابرة على تطور الأفكار واتساع مداركها في التأمل والتدبير من خلال القراءة فهي المفتاح الذي يقود نحو العلم والمعرفة المتنوعة التي تعمل على تنشيط القدرات العقلية وتنميتها، وتتجلّى أهمية القراءة في الإسلام بشكل واضح في أولى آيات القرآن "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ".
فالقراءة والمطالعة منهج حياة متكامل وعملية فكرية تغذي النفوس وتطبب العقول، فهي من الأنشطة المحفزة لدماغ الإنسان التي تساعده على تطوير قدراته على التحليل والتواصل الفكري، وزيادة مستوى التركيز الذهني، وكذلك الكتابة التي تبث روح الإبداع في مغازلة الأفكار وحياكة الموضوعات المرصعة بالقيم الحسنة، وتوطد الحوار، والمناقشة، والاتصال المباشر، وغير المباشر بالآخرين، وكذلك تقلل من معدل التوتر والاكتئاب، وتحد من الأمراض العصبية كالأرق والصداع، فتنمّى المشاركة الإيجابية لنسج أرقى ثياب التواصل الفكري، لذلك تعتبر القراءة والكتابة سفيرة الشعوب والحضارات.
يرى الفاشلون في الحياة أن التطور والغنى الفكري عدو لهم، فما إن يظهر نجاحٌ قد وضعه الله في إنسان؛ حتى يُطوي جناحُ غضبٍ مكتومٍ وضيقٍ بزوال تلك النعمة، ولا يسكنون إلا بانبلاج الخيبة والسقوط، فهم يغرسون الشبهات، وينفثون في مسارات الناجحين ويجيدون رمي الأشواك في خطى أصحاب النجاح فيكبّلونهم ملحمةً شرسةً من التحطيم المعنوي لا لُدونة فيها.
الناجحون لا يلتفتون إلى أعداء النجاح، ولا يعبئون بمن ينسجون من خيوط العنكبوت تداعيات بغيضة مغلفة بورق السيلوفان، ولا يرضخون لأيّ مخاوف بل يواصلون تميزهم العلميّ والعمليّ دون انتظار اعتراف مُعاديهم بتلك الإنجازات، فما عقبة المخاصمون إلا جسر يوثق فيه الناجحون نجاحًا آخرًا بانتزاع المخفقين من براثن الفشل والجهل، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، فقال الله في كتابه الكريم "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا".
للثراء الفكري ضريبة في الحياة، وطريق شاق وعسير في زمن يستأسد فيه الإفك والبهتان، فهو يُردف بأصحابه سلوكيات مزعجة من شأنها إلحاق الأذى بهم، دون أن يقترفوا أي ذنب سوى أنهم يملكون سعة الفكر والحضارة، فمن ذا الذي يبغض زهرة رائحتها زكية إلّا إذا كان في أنفه عطب، ويعتبر فقراء الفكر الثقافة والقراءة والمطالعة خطيئةً لا تُغتفر، ولا خطيئة أشد من التصحر الفكري.
إن وجود المرجفين في طريق التطور الفكري ما هو إلى باكورة الحصاد في سلم الفلاح، فهو يُشعرك بتحفيز دائم وطاقة هائلة تغدقك بسعادة الإنجاز، ويُكسبك مهارة التخطيط للذات، ويجعلك تفكّر بطريقة حضارية بعيدًا عن سفاسف الأمور، وتُسارع خطوات الإمضاء في خضم الملحمة، فلولا وجود العسر، لما كان لليسر معنى، ووجودهم بيّنة على أنّك في المسار الصحيح.
علاج التصحر الفكري يبدأ من أكثر الجروح خطورة، وهم حملة الشهادات العليا، تلك النخب التي تمثل قاطرة المجتمع، فمن شأنها أن تنادي بصوت التعقل في غابات التصحر، وإكساب المهارات الجديدة، والاتجاه الإيجابي غير التقليدي لصنع الذات، وعدم التشبث بالأفكار المتحجرة والانطواء والانعزالية، وقبول الرأي والرأي الآخر لرسم الإستراتيجيات السديدة، ومنح مساحة كاملة لجميع فئات المجتمع من إطلاق تفكير الإنسان بعيدًا عن أي قيود تحد من انطلاقه وتنوّره فكريًا وثقافيًا وحضاريًا.