ميرنا أبو نادي تكتب: ٦ مشاهد من فلسطين مع دلال أبوآمنة وياستي
20 يوما مرت على قلبي، تسكعوا في أوردته ليل نهار، أقاموا فيه سهرات تفكير لا تنتهي، أوقدوا خلالها حطب الحنين في صدري، أكلوا من طحين الصبر، شربوا من ماء دمعي، ثم سكروا من نبيذ أرقي، وأقسمت سهراتهم ألا تنقضي، إلا وقد اقتلعت مني رمقي الأخير.
مر وقت طويل لا أستطيع الكتابة، لأستجمع ما أنوى تلاوته على أذن الصفحات البيضاء علها تشفع لي عند ما يسمى بالـ "حنين" فيترك رأس قلبي وينصرف إلى سبيله.. كنت أعلم جيدًا ما سأمر به قبل اندلاعه، فعادة ما أمر بتلك النوبات بعد انصراف أحد ذيول الوطن الزائرين، ولكن لم تكن يومًا بتلك الشدة التي أقاسيها الآن.. ربما أدرك الآن السر وراء ما ضرب صدري من لوعة، فكل لاجئ فلسطيني عادة مايستقبل بين الحين والآخر زوار من "البلاد" ليتركوا في قلبه حقيقة لجوئه بعودتهم، ولكن لم يستقبل أحدهم وطن بكامل جغرافيته في هيئة أحد عشر شخصا.. نعم؛ فلسطين بنفسها ترجلت من بعدها واقتربت لتمنحني زيارة سريعة في ٦ أيام، وقبلة عودة بصمتها على جبيني قبل عودتها لذات البعد.
المشهد الأول
الزمان: ٦ أغسطس.. الساعة السادسة مساء
المكان: مطار القاهرة الدولي
أكل النفس ليس بالأمر المحال، فيمكنك فعلها بسهولة إذا انتظرت خروج فلسطيني من بوابات أي مطار بالعالم.. ثلاث ساعات طويلة مرت قبل ظهور أول الغيث عبر حائط زجاجي ضخم كنت اقف خلفه أمارس أكل نفسي بصمت طيلة مدة الانتظار.. لا كلمات قد تصف سعادتي عندما رأيت سيدات مشروع "ياستي" الغنائي الفلسطيني، يجترن حقائبهم خلفهم في طريق خروجهم نحوي، كانت خطواتهم تدق على نبض قلبي خطوة خطوة.
كنت التقط كل امرأة تلو الأخرى إلى حضني رغم أنها المرة الأولى التي أراهم فيها، كما لو إني أريد التأكد من مدى حقيقة وجودهم بالفعل إلى جواري.. لست أحلم!
ظهور المطربة الفلسطينية دلال أبو آمنة من بينهم، بابتسامة تملأ محياها فتقتسم جمال الغروب، ونظرة تحملها في عينيها لي تقول فيها: "شو!! أخيرًا؟!".. رائحة الوطن في ضمة دلال والسيدات وحدها من أكدت لي اني لست غارقة في هلوسة حلم طويل، أن فلسطين بكامل هيبتها إلى جواري.
أحاديث جانبية سريعة وخاطفة مرت بيني وبين السيدات، تشابهن جميعهن بابتسامة الحب المطلقة وضمتهن العميقة التي تخرق القلب لتوقظ فيه زعتر بهجته.. وحدها السيدة نائلة لبس الباحثة في التراث الفلسطيني عندما مرت ضمتها إلى قلبي، لم أستطع الحديث! فالحديث الأول مع مثلك وأيقونتك، ليس باليسير، ولكن قبلة على جبهتها ربما استطاعت تمرير مدى التبجيل الذي أكنه لها.
المشهد الثاني
الزمان: ٧ أغسطس.. الساعة الواحدة ظهرًا
المكان: باص الانتقال الداخلي لدار الأوبرا
حالات الفرح والسعادة، حالات الحزن والانتظار، لا تعني عند سيدات مشروع "يا ستي" سوى الغناء، فالموسيقى هي الترجمة الحرفية التي يستخدمونها للتعبير عن كافة أشكال المشاعر التي تخالج نفوسهم، الأمر الذي أدركته في طريق رحلتنا إلى أولى بروفات الحفل، عندما أخبرتهم بإمكانية الانتقال لمحل إقامة في وسط القاهرة، حيث القرب من الحياة، فما رأيتهم إلا يغنون ابتهاجا بالخبر، ويغيرون كلمات الأغنية لتتناسب مع الاسم والمكان "هاي دار العز واحنا رجالها.. ومابيحلى الدار غير نسوانها.. نيالها مصر نيالها.. بميرنا مصر نيالها".
لا أعرف المفردة التي يمكن استخدامها من قواميس اللغة لتعبر عن حالة فرحتي هناك، لا أعرف سوى أن لساني صام عن الكلام، ولكن قلبي كان يقفز من محله، فلم اجد رد فعل غير قبلة طبعتها على جبين دلال، لتشكرها نيابة عن قلبي وفرحه.
المشهد الثالث
الزمان: ٧ أغسطس.. الساعة الثامنة مساء
المكان: مكتب وزيرة الثقافة المصرية
على طاولة اجتماعات الدكتورة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة، جلسن نساء "يا ستي" ودلال ينتظرن اطلالة وزيرة الثقافة عليهن، فقد أحبوها سلفًا قبل رؤيتها، وإنما رأوا منها أفعالها ودعمها في استضافتهن ليكونوا التمثيل الفلسطيني الأول في مهرجان القلعة للموسيقى والغناء، رأوا منها تصميمها وعزيمتها وحبها في الوقت نفسه، ولكن زاد حبهم أضعاف عندما أطلت عليهم بابتسامتها المعتادة وترحيبها الجم.
"شال أبيض مطرز بأيدي النساء الفلسطينيات، وخشب زيتون مع كلمات شكر"... هما الهدية التي اصطحبتها دلال والسيدات من أرض فلسطين لإيناس، فما كان منها إلا الإمساك بالشال وارتداؤه أمامهم والتقاط صورة به، تقديرا ليد السيدات اللواتي غزلنه، وأيادي من حملوه إليها.. وفي ختام اللقاء ألقت كل سيدة السلام على إيناس بطريقتها الخاصة، ولكن التقطت أذني كلمات إحدى السيدات لإيناس حيث قالت: "أنتي من أقوى السيدات اللي بشوفهم بحياتي، وحلوة من بره ومن جوه".. كان ذلك التعبير الأوفى الذي يمكنه وصف وزيرة وفنانة في الوقت نفسه.
المشهد الرابع
الزمان: ٨ أغسطس.. الساعة الخامسة مساء
المكان: قاعة بروفات دار الأوبرا المصرية
وجوه جميع السيدات يحدوها الغضب والقلق، ولكن يحاولن نصره الموسيقى على ماتلقوه من أخبار سيئة، فلو أنك رأيتهم لن تلمح سوى تركيز في مسار البروفة وبهجة بالأغاني وسير العمل، وحده المطلع على الأخبار التي تلقونها سيعلم مدى الجهد الذي بذلوه للخروج من حالة غضبهم والولوج في العمل كما لو أن شيئا لم يكن.
قبل انتهاء البروفة بنصف ساعة فقط، دخل إلى القاعة طاقم شباب وأطفال فرقة الفالوجا للدبكة، للتمرين على وصلة الدبكة التي يقدمونها في الحفل.. جميعهم من الفلسطينيين اللاجئين في مصر، لم يروا من فلسطين سوى شريط أخبارها على قنوات التلفزة، ولكن رسموها في صدورهم وإيقاع خطواتهم في الدبكة، وما أن بدأوا في الوصلة، حتى تحولت القاعة إلى عرس فلسطيني بامتياز، كانت فلسطين حاضرة بكامل جغرافيتها، لا تفصل بينها حدود وحواجز، كانت الموسيقى والدبكة تقفز من فوق الفوهات لتعلنها فلسطينية كاملة دون نقصان.
المشهد وهيبته لن يشعر به إلا فلسطيني ورث ما ورث من المأساة والنكبة، فعيوننا بقدر ما كانت مبتهجة مع إيقاع الدبكة، بقدر ما بكت على اكتمال فلسطين في قاعة موسيقي لا أرض الواقع!، بقدر ما أشعل المشهد في نفوسنا جميعا تحديًا للظروف والأخبار السيئة التي نتلقاها، كان تحديًا وبرهان في الوقت نفسه، برهان على أن فلسطين حاضرة وباقية بقاء اللوز والزعتر، بقاء الأبد.
المشهد الخامس
الزمان: ٩ أغسطس.. الثامنة مساء
المكان: مسرح المحكى بقلعة صلاح الدين
أكثر من ٦ آلاف مشاهد يملئون المسرح، تنتظر آذانهم وأعينهم شارة البدء لفلسطين وسيداتها.. مشكلات عدة -خارجة عن إرادة الجميع- واجهت دلال والسيدات ولكنهم واجهوها ببسالة الحجر الذي يصارع الريح ليصل لأقرب وجه عدو ليصبه، ظهورهم على المسرح رغم كل شئ كان رسالة فلسطينية للعالم أجمع، رفعن خلالها العلم والوطن وقذفن وجه الاحتلال، صرخوا دون صوت أنه لامفر من عودتنا، أقسموا على عودة الأرض دون قسم، ورتلوا تراثنا على مسامع الحضور في خشوع مبهج.
لم يكن فقط حفل موسيقى تتغنى فيه دلال مع نساء يا ستي بالتراث والطرب، وانما نساء فلسطينيات تفوق أعمارهم عمر الكيان الإسرائيلي بسنوات، ولاجئات حملن مفاتيح عودتهن بالحناجر والغناء، ومصريات يكملن لوحة الهوية والتراث، وشباب وأطفال دقت اقدام دبكتهم على قلوبنا.. كانت فلسطين بكامل عرشها على المسرح، كانت يافا وحيفا والقدس وغزة وصفد وطبرية ونابلس، كانت فلسطين.. فلسطين كاملة.
المشهد السادس
الزمان: ١٠ أغسطس.. قبل الرحيل بساعات
المكان: أحد فنادق القاهرة
لو أن خبير جغرافيا هبط إليّ من السماء ليقنعني أني لم أقض تلك الأيام في فلسطين، ما اقتنعت.
طيلة فترة مكوث دلال وسيدات ياستي في القاهرة، كنت أشعر أني أتنقل بين شوارع ومدن وأهل فلسطين، أسير في الحسين فأحسب أني أسير بشارع صلاح الدين في القدس، أسير في "وسط البلد" فأحسب أني وسط رام الله.. وحدها ليلة رحيلهم من صفعتني على حقيقتي.
صفعة أردتني إلى ماكنت عليه، صفعة تركت آثارها على قلبي ونقشت مرسوم صريح بأن أكف عن الحلم واستيقظ لحقيقة رحيل فلسطين، حقيقة أني هنا وسأبقى هنا، أني لاجئة وسأبقى.
كنت أتأمل الفراغ وأحاول أبعد نظري عن دلال أثناء إعدادها لحقيبتها، عندما قلت لها: "أشعر كما لو اني اكرهكم الآن، اكرهك، كلما نظرت إليك صفعتني الحقيقة، إنك عائدة، وأن لا عودة متاحة لي، هناك صفعة وركلة دقت على قلبي عندما تذكرت أن عودتكم صباح الغد، ركلة ذكرتني اني على أرض المنفى، وإن فلسطين لم يكن وجودها معي طيلة الأيام السابقة سوى حلم أو زيارة سريعة".
بكيت بغضب من الواقع، بكيت للعجز عن تغييره، بكيت لمحاولاتي العديدة لفرض النسيان على قلبي، بكيت لرفض قلبي دائما لتلك المحاولات واستسلامه لحنين العودة لبلاد لم ير منها شيئا، لبلاد ربما لن ير منها شيئا.