الضاربون على «الفكة»
إحدى الظواهر المجتمعية الغريبة التي أفرزها قرار "التعويم" أو ما أُطلق عليه أنا "التغريق" أن كل واحد في بلدنا ضارب إيده في جيب التاني، "يلطش" منه ما يستطيع بسيف الحياء لتعويض ما تفعله بنا حكومتنا التي أصبحت "ضاربة إيدها" هي الأخرى في جيب الفقراء والغلابة..
دفعني لكتابة هذا الكلام موقفان.. الأول أنني منذ أيام وأثناء تموين سيارتي في إحدى البنزينات اكتشفت أن العامل وصل بقيمة العداد إلى 250 جنيها وبدلا من أن يتوقف، ضغط على المسدس في فتحة التانك ليضيف بضعة قروش "كَسْرْ الجنيه" وعندما أعطيته 300 جنيه أعاد لي فقط 45 جنيها وليس 50 دون أن يسألني إذا كان معي نصف جنيه فكة أم لا وكأن الباقي حق مكتسب له.
ولأنني قد فاض بي الكيل من سلوكيات هؤلاء، تقمصت دور "البخيل الرِزِلْ" ونزلت من السيارة وقلت له باقي لي 4 جنيهات ونصف، رد ببرود شديد زاد من إصراري عن أن لا أترك له مليما واحدا "ما فيش فكة"، أخرجت نصف جنيه وأعطيتها له وحصلت منه على 5 جنيهات، وقلت له وش كده" لو بتعمل كده مع كل الناس ربنا مش هيبارك لك دي فلوس حرام لأنك بتاخدها مني غصب عني"، وهكذا أصبحنا في زمن يحدد فيه عمال محطات تموين السيارات قيمة البقشيش الذي سيحصلون عليه "من جيبك".
الموقف الثاني الذي استفزني للكتابة عن هذه الظاهرة، أنني تعاملت أمس مع عدة جهات بعضها حكومي "دفع فواتير" والآخر خاص "سوبر ماركت وصيدليات ومخابز" واكتشفت أنني ضاع عليَّ بسيف الحياء باقي كسور الخمسة جنيهات من الفكة بلغ مجموعها في كل المعاملات 25 جنيها، وهو ما يعني أن عليك أن تحمل في جيبك قبل التسوق عشرات الجنيهات من الفكة الصغيرة والكبيرة تعطيها مقدما في كل معاملة وإلا سيضيع عليك الباقي في كل مرة.
ظاهرة "الضاربون على الفكة" انتشرت وتوغلت بين بعض الموظفين الحكوميين الذين نتعامل معهم جميعا على أبواب بيوتنا وصارت عادة.
أعرف أن هذا المقال قد يضعني تحت طائلة الاتهام بالبخل، لكن كتبته لأؤكد فقط على قيمة أن الإنسان منا قد يكون كريما إلى أبعد الحدود ويعطي بسخاء عندما يكون الأمر متعلقا بطيب الخاطر، أما ما يؤخذ منه بسيف الحياء قد يستفزه ويجعله مختلفا تماما وأبعد ما يكون عن الكرم والعطاء.
الجديد في حكاية "ما يؤخذ بسيف الحياء" أن بعض الذين أدمنوا "الأخذ" لم يعد يطلب منك أن تعطيه ما له من "فكة" ليعطيك ما لك من حق "مجمدا"، بل يضرب عليها ويسكت ثقة منه في أن خجلك وأدبك سيمنعك من أن تطلب الباقي، وكأن كسور الخمسة جنيهات حتى لو كانت 4 جنيهات ونصف أصبحت حقا مكتسبا له.
قبل قرار "التغريق" منذ عامين كان "الضاربون على الفكة" يسطون على باقي الربع جنيه من القروش، الآن صاروا يسطون على باقي الخمسة جنيهات، وانتشروا وتوغلوا وتكاثروا وملأوا الأسواق والمصالح الحكومية وغير الحكومية، في كل مرة تُخرِج فيها حافظة نقودك يرفعون في وجهك شعار "ادفع بالتي هي أحسن" وهم لا يخجلون ولا يستحون.
عندما كنت أعيش في دولة الإمارات لم أر أبدًا سائق تاكسي "ضرب" على نصف أو ربع درهم باقي لي من حساب العداد، ولم أشاهد كاشير في سوبر ماركت إلا وترك لي باقي "الخردة" -كما يسمونها هناك- من الدرهم إذا كان ليس لديه فكة، ولم أصادف صنايعيًا يتلكأ ويتلكع ويتباطأ وهو يخرج من شقتك بعد أداء خدمة الصيانة الدورية في انتظار "التبس أو البقشيش أو الإكرامية أو الدخان"، بل كان يخرج كالبرق أولا حتى لا يعطيك فرصة لمثل هذا السلوك وثانيا لأن لديه تعليمات صارمة من الشركة المسئولة عن صيانة العقار بعدم تقاضي أي "فلس" وإلا فـ"التفنيش" من العمل هو مصيره.
لقد زهقنا وضقنا بجد من هذه السلوكيات الطفيلية وهي كثيرة ومتنامية، إذا مشيت في الشوارع يطاردك المتسولون ويصلون بك من "الغلاسة والغتاتة" إلى مرحلة التبرم و"الطهقان"، وإذا كان ربنا فاتح عليك بسيارة يطاردك بلطجية الأرصفة في كل مكان وزمان تركن فيه، ويلاحقك المتسولون من حاملي "الفوط" في كل إشارات المرور.
لسنا في دولة متوسط دخل مواطنيها عشرات الآلاف مثل معظم دول الخليج بحيث تكون لدينا رفاهية الترفع والتغاضي عن سلوكيات مثل هؤلاء، لكننا في دولة لا يخجل مسئولوها من الحديث عن 1200 جنيه كحد أدنى للرواتب وهو رقم لم يعد يكفي لالتزام واحدة من التزامات الحياة الكثيرة بالعشرات.
ما أكتب عنه اليوم ظاهرة سلوكية مجتمعية تخص الضمير والأخلاق ولا تحتاج إلى قرارات أو قوانين لاجتثاثها، والاثنان "الضمير والأخلاق" لا يباعان للأسف في المحال، وما أكثر ما يؤخذ بسيف الحياء في بلدنا هذه الأيام.