رئيس التحرير
عصام كامل

التأميم الناعم للإعلام !


وكأن الزمان يعيد نفسه، فعندما بدت المدارس الصحفية تعبر بحرية عن طموحات الأمة المصرية بعد يوليو١٩٥٢ ضاق الحكام الجدد ببقايا الفترة الليبرالية وراحوا يتوعدون الصحافة حتى قاموا بتأميمها وكمموا الأفواه ولم يعد صوت يعلو على صوت المعارك.. شيء من هذا يحدث الآن بالهيمنة على كل القنوات والصحف والمواقع الإلكترونية وتوحيد الرسالة في عودة بائسة لزمن مضى، ولهذا فإن كل الأسباب المعلنة والرسمية عن مآزق الإعلام هي مجرد أعراض لأمراض مزمنة، واستفحلت عندما وسد الأمر لغير أهله..


وفيما يبدو فقد كان ما جري على الأقل خلال السنوات الثماني الماضية بفعل فاعل ومع سبق الإصرار والترصد، لكسر شوكة الإعلام، خاصة بعدما ظهر تأثيره الجبار في مجري الأحداث والزلزال الذي شهدته مصر والمصريون، وليس من المنطقي أن تتفق رؤية الإخوان مع بقية القوى السياسية في تشويه الإعلام، وكنا نفهم سر غضب الإخوان، ولكن غير المفهوم موقف القوى السياسية الرسمية في التنديد طوال الوقت بالإعلام..

رغم أن نجوم تلك المراحل كان يتم تلقينهم من أجهزة السلطة، ولم يعد سرا الآن التكتيكات المؤسسية لما يسمي بالأذرع الإعلامية، وغض الطرف عن تجاوزاتهم المهنية والأخلاقية أو تدعيم بعض رجال الأعمال مالكي الصحف والمواقع والفضائيات والسماح لهم بممارسة كل أساليب الاحتكار من دمج واستحواذ وإنشاء تكتلات إعلامية وإعلانية بالمخالفة لكل القوانين والأعراف..

ظهر جيل جديد من مالكي الإعلام بدون سابق خبرة أو تاريخ بدون أن يسألهم أحد من أين لهم هذا، وكما ظهروا فجأة اندثروا أيضا فجأة وبالتزامن مع ذلك ظهرت شخصيات بلا سابق خبرة في الإدارة أو المهنة وتم إسناد مهام خطيرة لهم في إدارة المؤسسات الإعلامية، في عودة فجة لعصور أهل الثقة على حساب الكفاءات والخبرات المهنية..

وليت الأمر توقف عند ذلك ولكن راحت مساحات الحرية والإبداع تضيق حتى كاد التنوع أن يختفي وعدنا للرأي الواحد، الأمر الذي دفع الجمهور لهجرة تلك المنصات الإعلامية واللجوء لمنصات خارجية بحثا فيها عن الرأي الآخر الغائب..

وكان طبيعيا أن تهجر الإعلانات المنصات الرسمية كما هجرها الجمهور، وحتى عندما حاولت بعض العقول الرشيدة فشلت في إنتاج برنامج توك شو لماسبيرو أكثر من مرة، وعبثا حاول بعض الهواة مسك زمام المبادرة بفرض إعلاميين بعينهم والضغط على بعض المؤسسات الاقتصادية بتمويل برامجهم، ولكن الفشل ظل يلاحقهم، وعندما حان وقت الحساب اختفى الرجال الذين كانوا يقفون خلف تلك المهزلة..

وبدا المشهد كنوع من التأميم الناعم لكل المنصات الإعلامية، بدون أن يفهم القائمون على الأمر أن ما كان يصلح في الستينيات لم يعد يصلح لهذا الزمان، وبدون أن نتعظ من الكوارث التي لحقت بهذا البلد من التأميم الخشن للصحافة، (أرجو أن يلاحظ القارئ أن مصطلح المنصات الإعلامية يشمل الصحف والمواقع الإلكترونية والفضائيات والسوشيال ميديا)، فلم يعد هناك تلك المسميات القديمة، الآن لدينا صحافة مطبوعة ومسموعة وتليفزيونية وإلكترونية، وهناك غرف الأخبار التي تنتج المادة الإعلامية لملء تلك الوسائط..

وبات من المنطقي أن تمتلك المؤسسات الإعلامية صحفًا وقنوات ومواقع إلكترونية كل منها يخدم على الآخر، ولذلك فإن الجدل الراهن هو مضيعة للوقت واستنزاف ما تبقي من دماء في المؤسسات الإعلامية المصرية، والخطر الأكبر على مكانة قوي مصر الناعمة وعلي القضايا التي تناقش خارج الحدود على فضائيات ومواقع وصحف معظمها معادٍ، وبالتالي اختراق المساحات التي تخلي فيها الإعلام المصري عنها بالشائعات والأخبار المفبركة والآراء المضللة..

والغريب أن تلك الوسائل المعادية فشلت في ذلك عندما كانت الدولة في حالة فوضى، لأن التنوع والاختلاف بين وسائل الإعلام جذب المشاهد والقارئ، وكان ذلك بمثابة تحصين للجبهة الداخلية، والأمر هكذا فإن التنوع والتعدد فيما تبقي من منصات هو أرخص الحلول وأكثرها أمانا وتحصينا في بلد ينص دستوره على التعدد.

الجريدة الرسمية