محمد نصار يكتب: مع القليوبية في عيدها القومي (1)
في اليوم الرابع من شهر أغسطس 2015 م تم نقلى للعمل إماما وخطيبا لمسجد ناصر بمدينة بنها، وشاء القدر أن أشهد مع نهاية هذا الشهر احتفال القليوبية بعيدها القومى من خلال هذا المسجد، هذا العيد الذي ربما لم أشهده على هذا النحو إلا في ذلك الحين.
لقد لفتت انتباهى مظاهر هذه الاحتفالات، وماذا تعنى؟
وقادنى ذلك من باب الفضول آنذاك أن أتعرف على نتف ولو بسيطة لتاريخ القليوبية وعيدها القومي. ولم أكن أعرف أن هذا يقودني إلى بحث معمق أستطلع من خلاله كتابات الباحثين وأقف على قدم راسخة من تاريخ القليوبية.
وبدأ التشوف المعرفى بأدواته يطرق أبوابه، يعضده الحس الوطنى الذي يشدونى إليه، أشم رائحة الماضي العتيق، وأستتبع النظر الاستقصائي والاستنباطي على السواء، إنها نهمات الأسئلة التي بدأت تفوح من أعماق ذاكرتي كعادتي، فالسؤال عندي كله تسعة أنواع :
هل هو ؟ وما هو ؟ وكم هو ؟ وأين هو ؟ وكيف هو ؟ ومتى هو ؟ ولم هو ؟ ومن هو ؟
ولكل سؤال جواب خاص لا يشبه الآخر.
ولم تكن هذه العبارة التي قالها الحكيم تفارقنى لحظة في مثل هذه الأمور: (من وعى التاريخ في صدره أضاف أعمارا إلى عمره، ومن لم يعي التاريخ في صدره لم يدرى حلو العيش من مرة).
لكنه التاريخ من نوع آخر...
إنه التاريخ المحلى الذي يصعب التوصل إليه إلا بضرب من صبر، وسندات التحمل !!
لأنني شاهدت في بلاد العالم المتقدمة أن التاريخ المحلى يحظى بعناية ورعاية كبيرتين.
يشد انتباهك مدى إقبال الأجانب على تدوين مراحل تاريخية لمحافظة ما أو لقرية من القرى أو مدرسة أو كنيسة... الخ، والحرص على إبراز السمات العامة والمراحل الفاصلة وحالات التمخض في المجتمعات تلك.
وذلك لما يكتسيه التأريخ المحلي من أهمية قصوى في عملية إعادة كتابة التاريخ الوطني، وإمكانية التحري المجهري حول الأحداث والوقائع التي عاشتها المناطق والجهات المختلفة من البلاد، والكشف عن حقيقة مجرياتها، والتعمق في دراسة مختلف التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها هذه المناطق، عن طريق الاستثمار المكثف للإمكانيات المهمة التي توفرها الوثائق المحلية.
وربما كانت دولنا في حاجة ملحة إلى هذا النوع من التأريخ.. فماذا عن القليوبية ؟
تعتبر محافظة القليوبية همزة الوصل بين محافظات الوجه البحري ومحافظات الوجه القبلى نظرا لموقعها الجغرافي المتميز، ولذلك كانت دائما موضع جذب للمهاجرين والمستعمرين الأجانب الطامعين في مصر قديما وحديثا. ويزعمون أن القليوبية كانت بمثابة الجبهة الأولى للدفاع عن مصر في وجه الغزاة.
وقد كانت القليوبية شاسعة المساحة، حتى إنه ليثبت أحد المؤرخين – استنادا إلى القرار المالى والإداري الذي بين يديه سنة 1941م- أن أحد مراكز القليوبية كان فيه بهتيم والوايلى والمطرية والزاوية الحمراء والأميرية والقبة وما جاورها كعين شمس والزيتون... فلما توسعت القاهرة وامتدت مساكنها التي ازدحمت بالسكان تقلصت بعض بلاد القليوبية إلى القاهرة وصارت جزءا منها. وفى عهد محمد على سميت القليوبية نسبة إلى قليوب، ولكن بنها تغلبت على قليوب فانتزعت الكرسي منها وصارت هي العاصمة حتى الآن.
وقد اختير إلى عهد قريب يوم 11 أبريل عيدا قوميا للمحافظة، لأنه اليوم الذي وضع فيه حجر الأساس لقناطر محمد على باشا، ثم عدل إلى يوم 30 من أغسطس لأنه اليوم الذي يواكب الافتتاح سنة 1868 م، وتعد القناطر من مميزات المحافظة حيث يتوافد عليها السائحون والزائرون من مختلف أنحاء الجمهورية لمشاهدة المناظر الطبيعية والمنتزهات والحدائق.... كما أن بها متحف الري الذي يضم نماذج مختلفة لوسائل ومشروعات الرى منذ عهد الفراعنة وحتى الآن، ومجسمات للسد العالى والقناطر والسدود المقامة على نهر النيل من منبعه وحتى مصبه.
ويرى علماء الجيولوجيا أن بدء وجود الجنس البشرى في هذه البقعة ( التي كانت تسمى بالحوف الشرقي) يرجع إلى 200 ألف سنة من عهد ما قبل التاريخ، في الوقت الذي كانت فيه البلاد الأخرى حياضا ومستنقعات تسبح فيها التماسيح وتجرى فيها الوحوش، وكانوا يسكنون الكهوف والمغارات.
ويرجح بعض المؤرخين وجود حكومة منظمة في هذه البقعة وأنه كان بها حضارة بدائية بدأت بالصيد ومطاردة الوحوش بأسلحة حجرية ثم عرفوا التجارة وتطوروا بعد ذلك في مجال الصناعة وبناء السفن وطعموا أيدى الآلات بالعاج والمعادن، وأتقنوا علوم الفلك والنجوم، وكانت عاصمتهم في شمال أتريب ( بجوار بنها ) في أرض رفعوا بنائها على الرمل، وكان بها آثار، على أن معظم هذه الآثار عصفت عليها الرياح.
ومن آثارها الحضارية في العصر القديم - قبل التاريخ- المحاكم والقوانين، والملابس، والجلود والنعال والمساكن الصحية، وأدوات الزينة، والأسلحة الحجرية، والنقش ولا تزال معظم هذه الآثار الأخيرة حبيسة المتحف المصري ( دار الآثار) بأرقام( 42- 43)، وقد محا الزمن كثيرا منها.
وقد أثرى المؤرخ الجيولوجى (هونر) الحياة القليوبية ببحثه الدقيق في تحديد عمر الحضارة بهذه المنطقة حين توصل إلى أن الأتربة التي هي من عوامل الارتفاع على سطح الأرض وهى ضد التعرية، وقد بلغ ارتفاعها أحد عشر قدما، ورأى أن أعمق بقايا إنسانية أثرية على عمق 390 قدما، وأن إنشاء المسلة بعين شمس كان قبل الميلاد بنحو 2300 سنة، وبذلك يكون عمر الحضارة في هذه المنطقة ( القليوبية وما حولها) 30000 ألف سنة، أو يزيد على ذلك بعشرات السنين.
وقد وصف المؤرخ (هيردوت) شعب القليوبية بسواد الشعر، وجمال الخلقة، والميل إلى الذكاء، والميل إلى التقدم، كما أفاض في وصف رجالها ونسائها خَلقا وخُلقا، وملبسا، ومعيشة.
ويؤكد المؤرخ (بروكسن) أن شعب القليوبية من ناحية العقائد الدينية كانوا يؤمنون بالبعث والنشور واليوم الآخر، كما كانوا يؤمنون بالله حق الإيمان، ولم يعبدوا الحيوان، وأكد أن ( شيث) الرسول المعروف في التاريخ كان قاطنا بهذه المنطقة.
ويذهب المقريزى والطبري وابن خلدون إلى أن أخنوخ المعروف بإدريس الرسول عاش بمنطقة أون (عين شمس حاليا التي كانت تبع للقليوبية منذ عهد ليس ببعيد كما أشرنا) وسمي بهرمان الحكيم.
ويذكر صاحب كتاب الدر الثمين: أن القليوبية مع بداية الأسرة الفرعونية الثانية نحو (3047 – 2780 ق.م ) بدأت مرفوعة الرأس لانتقال العاصمة إلى جارتها ( بوباستس) بالقرب من الزقازيق، وتعاونت المنطقة الشرقية كلها مع العاصمة الجديدة.
وقد اتحذ التطور الحضارى منحى جديدا استطاع المصرى فيه أن يطور العلوم الرياضية والقوانين التشريعية والوصفات الطبية، وأنشئت المدارس في أون (عين شمس) لدراسة الطب والفلك والجغرافيا، واقتبس اليونانيون منها ما شاء أن يقتبسوا، وستجد في المتحف البريطانى أول رسالة طبية لمعالجة الصرع، وغيره من الأمراض التي كانت في محيط البلاد.
وكان المتخرج من هذه المدارس يحمل مؤهلات مختلفة مثل: العالم الفلكي، أو الطبيب العارف بأحوال النفس، أو الطبيب العالم بالتشريح، أو العالم بالأسرار الخفية.
وخلفت هذه الأسرة أثارا لا زالت مركونة بدار الآثار من أصداف مرصعة بالذهب ( تحت رقم 4008 بالمتحف ) وتمثال من الجرانيت الأحمر وعليه أسماء ملوك الأسرة الثانية برقم (3072) ومجموعة من الحلي الملكي نادرة الوجود.
ثم انتقل مقر الملك إلى مقربة من القليوبية في نحو (4355 ق.م) بعد انتقال العاصمة إلى ممفيس، لتتعاون القليوبية مع ممفيس جارتها، وكانتا معا تعتبران كعبتين للعلوم والحكمة.
ثم كانت الأسرة الرابعة نحو (2575 – 2465 ق. م) صاحبت الخلود المعمارى الشاهق (صاحبة الأهرامات) التي تنافس بها الدهر في الخلود وبقائها إلى اليوم الموعود.
وأتساءل عن قرب وعن بعد:
من أين جاء البناؤون؟ وأنى للعمال بهذا النجاح والإتقان؟
ثم أعود لأجيب في صيغة السؤال أيضا، ألم يكونوا هم أقرب الناس لموقع البناء كما اقتضت العادات ؟
ومن غير أبناء القليوبية والجيزة؟
عندها أناديهم في عبق ماضيهم: لله دركم يا أبناء القليوبية والجيزة، يا من سجلتم بعرقكم وبصمات أيديكم على كل حجر من أحجار هذه الآثار المصرية التاريخية الخالدة، التي ما تزال تجذب أنظار الدنيا إلى عظمتها وروعة بنائها وتصميمها.
إنه عمل رائع خرج أبناء القليوبية من بعده يتنفسون الثبات والصبر والقوة، فلم يكن بدعا حينئذ أن نرى لهم الوقفات المشرفة في الدفاع عن البلاد في مراحل مختلفة، وقد خرج منهم القادة الأمجاد.
وللحديث بقية..........