رئيس التحرير
عصام كامل

دين الحب (6)


خلاصةُ القولِ: إن الدينَ أساسُه الحبُّ.. فلولا الحبُّ ما كان التسامح، ولولا الحبُّ ماكان التراحم، ولولا الحب ماكانت التضحية.. وشرطُ صحة الحب أن يكون لله.. أن يحبَّ المرءُ أخاه لا يحبه إلا لله، وأن يحب أبناءه لله، وأن يحب إخوته لله، وأن يحب عمله ويتقنه لله، وأن يسهر على خدمة الآخرين، ويحرصَ على تقديم العون، لمن يعرف ومن لا يعرف لله.


إذا صح العزم والنية، وتطهر القلب من الأدران وحب الدنيا والشهوات والرغبة في الملذات، فإنه يكون مهيئًا للحب الحقيقي.. حب الله ورسوله وآل بيته.. لا يجتمع الحب والبغض في قلب واحد، ولا يلتقي حب الله وحب الدنيا في قلب واحد، ولا يمتزج حب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، مع حب العنف والدماء في قلب واحد.

من هنا يتضح جليا أن المتشددين والمتطرفين خارجون عن إجماع أُمة الحبيب، وأن الله ورسوله منهم براء، من الخوارج وحتى القاعدة وداعش، مرورًا بالحشاشين، والإخوان، والتكفير والهجرة، والوهابية، وغيرهم.

الإسلامُ ليس دين الكهنوت والتابوهات والشكليات والمظاهر، لكن الإسلام دينٌ متجددٌ، يهتم بالجوهر، يساير العصر، ويركز على المعاملات، وتقوى الله في السر والعلن، وقد أخطأ الذين حصروا الدين الحنيف في اللباس والشكل، والنقاب واللحية والجلباب، وطريقة المشي، والتفتيش في النوايا، ومكنون الصدور.

آمن الصحابة الأوائل مذ كانت الدعوة سرية بالنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وبالإسلام بالحب؛ فقد أحبوا سيدنا محمدًا، صلوات الله عليه وآله، فأحبوا ما يدعوهم إليه، ولذا ترك شاب مُرَّفه مثل "مصعب بن عمير" العزة والجاه والنعيم، وفضل عليها حياة الشظف والزهد والفاقة، ومات شهيدًا، ولم يكد المسلمون يجدون ما يواري جسده من القماش، فاستكملوه بأوراق الشجر.

وعندما أراد والد زيد بن حارثة، وعمه، أن يستردوه، رد زيد على سؤال النبي له: «يا زيد فأنا من قد علمت ورأيت صحبتي لك، وقد خَيَّرْتك فإنْ شِئتَ مَضَيْتَ معهما، وإن شِئتَ أقَمْتَ معي»، قائلا: بل أُقيمُ معك، ثم زاد: ما أنا بالذي أخْتار عليك أحدًا.. أنت مني مكان الأب والعم.. وأنعم به من أب وعمّ هو بأبي هو وأمي.. وعندما صاح به أبوه: وَيْحَكَ يا زيد، أَتخْتارُ العُبودِيَّة على أبيك وأمِّك؟ أكمل زيد مفاجأته: "إني رأيْتُ من هذا الرجل شيئًا أنْساني كُلَّ إنْسان، ما أنا بالذي يُفارقُه أبدًا وما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا". 
فما كان من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين رأى ذلك الحب من الفتى إلا أن خرج بزيدٍ إلى الحجر، ونادى مُشهِدًا أهل مكة: «يا من حضر، اشهدوا أن زيدًا ابني يرثني وأرثه».

وهذا خُبيب بن عدي، رضي الله عنه، يُقدَّم ليقتلَ ويصلب، فيقول له قاتلوه مِن مشركي قريش: أيسُرُّك أنَّك في بيتك معافًى، وأن محمدًا مقامك، فيلقي إليهم، رضي الله عنه، بمفاجأته قائلا: "لا والله، ما يسرني ذلك ولا أن يشاكَّ محمد، صلَّى الله عليه وسلَّم، بشوكة".

وزيد بن الدثنة، عندما ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: "أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟"، قال: "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي"، فقال أبو سفيان: "ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا".

في يومُ أُحُدٍ حاص المسلمون حَيْصةً، فقالوا: قُتِل محمَّدٌ، حتَّى كثُرت الصَّوارِخُ ناحيةً من المدينةِ، فخرجت امرأةٌ من الأنصارِ متحزِّبةً فاستقبلتْ بأبيها وابنِها وأخيها وزوجِها.. أي جاءها خبر استشهادهم.. وهي لا تنفك بصدد كل خبر تسأل سؤالًا واحدًا: ما فعل رسولُ اللهِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ حتى قالوا: أمامَكِ.. فلما تأكدت أنه حي يرزق قالت: بأبي أنت وأمِّي يا رسولَ اللهِ! لا أُبالي إذ سلِمْتَ من عطَب.. كل مصيبة بعدك جلل.. أي: صغيرة.

كان ثوبان مولى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، شديد الحب لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغيَّر لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له الرسول، صلى الله عليه وسلم: «ما غيَّر لونك؟»، فقال: يا رسول الله، ما بي مرض ولا وجع، غير أنّي إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أني لا أراك، لأنك تُرفَع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية "وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا".

رفض ربيعة بن كعب الأسلمي عروض الزواج التي كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعرضها عليه مخيرًا إياه لا لشيء إلا ليبقى إلى جواره يخدمه حتى إذا أصر النبي قَبِلَ ربيعة مضطرًا.. وحين قال له رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا ربيعة، سلني»، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: «أَوَ غَيْر ذلك؟»، قال: هو ذاك، قال: «يا ربيعة، أعِنِّي على نفسِك بكثرة السجود».

هذا ديننا.. دين الحب.. والرحمة، والتسامح، والتواد، والتراحم، والتضحية، والتيسير، واللين، والبذل، والعطاء، والأخوة، والعطف، والحياء، والورع، والزهد.. ديننا لا يعرف الجفاء، ولا الشدة، ولا الغلظة، ولا التشدد، ولا التطرف، ولا الغلو، ولا التطاول، ولا البخل، ولا الخبث، ولا النفاق، ولا الرياء، ولا التظاهر.



الجريدة الرسمية